“الحرية من الإسلام”

الحرية كلمة ينشد حقيقتها كل فرد ويسعى إليها، وجاء الإسلام يضمن الحرية للإنسان؛ لأن الحرية إحدى مقومات الشخصية، وأساس أي مجتمع إنساني، وقد حرص الإسلام على تربيتها وتهذيبها وتقويمها، ضمن الإسلام للمسلم الحرية الشخصية؛ حرية الرأي، حرية العمل، حرية المأوى، التملك، والتعلم.

العبودية لله فقط“:

والإسلام حين يرعى حرية الإنسان، فانه يؤسسها بداية على تحريره هومن كل ما يكبل إرادته ويلغي إنسانيته وكرامته، يحرره في قلبه ومشاعره من سيطرة الأهواء والدوافع الشيطانية، ويحرره في عقله وتفكيره من قيود الأوهام والخرافات، ويحرره في بدنه وكيانه من عناصر الظلم والقهر والاستعباد والمهانة، وذلك من أجل أن تبقى كل معاني العبودية والخضوع خالصة لله وحده، وهوالذي أراد لعباده حياة التحرر والكرامة والامتياز (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).

التاريخ الإسلامي مليئ بمعاني الحرية“:

وفي تاريخ الإسلام تتجلَّى معاني الحرية، فحرِّية الرأي -مثلاً- نراها في موقف حُباب بن المنذر، الذي أبدى رأيًا شخصيًّا غير رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر، والصحابة أدلوا بآرائهم في حادثة الإفك وغير ذلك من المواقف، وأبوبكر -رضي الله عنه- قال في أول خطبة له بعد توليه الخلافة “إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن لم أُطعه؛ فلا طاعة لي عليكم” وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال للناس “لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها“.

الحرية التي يريدها الإسلام“:

الحرية التي يريدها الإسلام هي الحرية التي تبني الشخصية، وتحرس الأمن، وتحفظ النفس والفطرة، وتقيم الحق والعدل، وإذا تجاوز أي إنسان حدود وضوابط الحرية؛ فإنه يؤذي نفسه ومجتمعه وأمته، وواجب الأمة حماية الحرية حتى لا تفضي إلى الهدم.

يُفتن كثيرٌ من الناس بمصطلح الحرية وشعار الحرية، ويروِّج لها أعداء الإسلام، ويوسِّعون دائرتها، لتحقيق أهدافهم من تدمير القيم الدينية والخُلُقية، وإماتة الوازع الديني والخُلُقي، وتحطيم النظم الاجتماعية.

والحرية ككلِّ معنًى كريم؛ عرضة للتلاعب والتحريف والاستغلال؛ فالمجرم يفهم الحرية ممارسة السلب والنهب والقتل، والمحتال يفهم الحرية: سلبَ الأموال، وممارسة الغش والاحتكار، وحيل المضاربات والقمار، وقد يصوّر للمرأة الحرية انفلاتها من ضوابط العفة والقوامة وأي ضابط خُلُقي!!

يخطئ من يجعل الحرية مركبًا يستبيح بها كل شيء دون ضوابط، فليس من الحرية أن يرضي الإنسان شهوته ويسبب آلام الآخرين، وليس من الحرية أن يدمن الإنسان المسكرات، ويترك وراءه ذرية ترث العاهات والأمراض!

الحرية الفكرية عند مَنْ يخطئ فهمها: هي أن تجهر بشتم عقيدة الأمة، والاستخفاف بالدين! والحرية الشخصية عند آخرين: هي أن تعمل ما تشاء، وترتكب من المنكرات ما تريد، دون أن تحد تصرفاتك آداب المجتمع أوتعاليم الدين!!

لا شك أن فهم الحرية على هذا النحويسوق المجتمع إلى الدمار، ويعرض ثوابته للخراب، وأي تماسك يبقى في المجتمع وكل فرد فيه يعمل بما يرى، ولوضرَّ ذلك الآخرين؟!

ومن استغل الحرية للتعدي على ثوابت الدين ومسلمات الشريعة، وعمل على إضلال الناس؛ فإن حقه العقوبة والحجر، فإذا كان معنى الحرية أن يخرَّب المجتمع المسلم وتنتقض أسسه التي قام عليها؛ فهذا غير مقبول، ونحن بحاجة إلى أن نفهم الحرية من نصوص الوحي، لا من خلال تصورات بشرية قائمة على الأهواء والشهوات والمصالح؛ قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) القصص: 50.

الحرية في إطار الدين الحنيف“:

والرأي أوالكلمة التي يزعم بعض الناس أن الإنسان حرٌ فيها قد تؤدي بالإنسان إلى النار، وتستجلب غضب الجبار جل وعلا وهي مجرد كلمة أورأي قاله؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب” رواه مسلم، وفي لفظ للترمذي “يهوي بها سبعين خريفا في النار“.

ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يكفوا ألسنتهم عما لا ينفع من الكلام قال له معاذ رضي الله عنه: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: “ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أوعلى مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم” رواه الترمذي وصححه.

ولوصاح بالناس إنسان في أكبر بلاد الدنيا حرية أن حريقا قد اشتعل بالقرب منهم، أوأن قنبلة قد وضعت في طائرتهم وكان كاذبا متعمدا للكذب – لعوقب على ذلك؛ لأنه من باب الأذى للناس وترويعهم، والإزعاج للسلطات المسئولة، ولا تشفع دعوى حرية الرأي، أومحبة المزاح لصاحبها في مثل ذلك، مع أنه لم يعتد على أحد لا بقول ولا بفعل.

إن حقيقة التلازم بين الحرية والمسؤولية في حياة الإنسان أشبه بحال السائق وقواعد نظام السير: فأنت حر أن تركب سيارتك من ذوقك واختيارك، وتسير حيث تشاء، لكنك مطالب بمراعاة قواعد نظام السير واحترامها، حفاظا على سلامتك وسلامة غيرك، ولوأردتها حرية مطلقة في الطريق بغير التزام ولا انضباط، جنيت على نفسك وعلى غيرك وعلى النظام العام.

وإنما سميت المسؤولية كذلك ووصف الإنسان بها لأنه متبوع بالمساءلة والحساب بموازين الدنيا أولاً ثم يوم القيامة، فان أفلت من الأولى فلا مفر من موازين الحق يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيدا) آل عمران:30،(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الحجر:92-93، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) الصافات:24.

الحرية والفوضى“:

لقد ضرب لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثلاً من أروع الأمثلة، يبين الحد الفاصل بين الحرية والفوضى: “كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَنْ فوقهم فقالوا: لوأنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم؛ نجوا ونجوا جميعًا” رواه البخاري.

أنت حر لكن بضوابط

فأنت ترى هؤلاء أرادوا أن يستعملوا حريتهم فيما يخصهم، ولكنهم يجب أن يُمنعوا من استعمالها؛ إبقاءًا على حياة السفينة ومَنْ فيها، وفي هذا المثل الرائع يتبين الموقف ممن يسيؤون استعمال حريتهم الشخصية بما يؤذي الأمة ويضر الوطن ويفسد الأمر على الناس جميعًا، فدائرة حرية الفرد تتسع في نظر الإسلام مادام لا يؤذي بهذه الحرية نفسه أومجتمعه أودينه، أما إذا استغل هذه الحرية للإضرار بنفسه أوإيذاء مجتمعه أوالإضرار بدينه؛ عند ذلك يقف الإسلام في وجهه، فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا.

عبدالله الجعيدي