أقلام غدرت بهويتنا

وطن علمهم كيف يقرأون ويكتبون، فكان الوطن أول ضحاياهم، طعنا وتشكيكا ونقدا، لمعتقداته وتقاليده وعاداته، ورجالاته وتاريخه وأعرافه.

غدرت أقلام كثيرة بهويتنا، أو على الأصح غادرتها نهائيا. أقلام كثيرة، كثرة الذباب على الفضلات. ومما زاد الطين طينا، أن هذه الأقلام، لا تمس الظلمة والطغاة والجلادون، بنقطة أو همزة أو فاصلة. بل استبدلت، تلك الأقلام، الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأخذت تصطاد بقلوب ميتة، وعقول مسمومة، ونفوس مريضة، حوادث مختارة من تاريخنا، لتصنع منها كتبا ومجلدات وجبالا، فتحولت تلك الحوادث، وبقدرة قادر، من حوادث متفرقة إلى تاريخ كامل متكامل.

وأقول بقلوب ميتة، لأن تلك الأقلام، تصنع ما تصنع، بينما الوطن الذي علمهم كيف يفرقون بين الحرف والحرف، ينزف دماً، ويئن تحت وطأة المآسي والظلم والقهر والاستبداد.

في وقت يحتاج فيه وطننا، إلى كل كلمة وهمسة وهمزة وحرف، تخفف آلام الناس، نرى أصحاب هذه الأقلام يوجهون سهامهم وسيوفهم ورماحهم، إلى عقيدة وتاريخ وتراث هذا الشعب، من أجل أن يصبغوا الإسلام وتاريخ الإسلام إما بالعنف، أو الظلم، أو التخلف، أو الاستبداد، أو الإرهاب.

والأدهى والأمر، أن هذه الأقلام، تغض الطر، وبكرم حاتمي، أو ببلاهة تطوعية، أو بغباء مصطنع، تغض الطرف عن إيجابيات التاريخ الإسلامي من جهة، وعن عنف واستبداد وظلم الأمم والنحل والدول والأنظمة الأخرى، بمختلف مشاربها وتوجهاتها ومذاهبها، فقط ليرسخوا مبدأ مفاده إن الأنظمة التي تستند أو تعتمد على تعاليم الإسلام، مرتبطة
(هذه الأنظمة) بالعنف والتنكيل والقتل والدمار والذبح والدماء والإرهاب. وبصيغة أخرى، محاولة ترسيخ مبدأ أن الانظمة العلمانية والليبرالية والفكر والأنظمة والتوجهات التي تعتمد على الحداثة، خالية من التنكيل والعنف والإرهاب.

أفلم تكن أمريكا (عن العنف) على سبيل المثال، دولة علمانية عندما قصفت مدن وشواطئ ليبيا، فأرعبت الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والعجزة والعميان، ألم تكن أمريكا دولة علمانية، ديموقراطية، تتمتع بمجلس للشيوخ وآخر للنواب عندما فعلت ذلك، أم أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقود أسراب تلك الطائرات التي شنت غاراتها على تلك المدن والقرى والأرياف.

وانظروا، من جهة أخرى، إلى القتل والتشريد والدمار الذي يتعرض له أطفال وشيوخ ونساء فلسطين منذ نصف قرن ويزيد، والعالم العلماني الليبرالي، برمته، يتفرج ويؤيد ويبارك، بل ويدعم.

الم يُرمَ علماء ليبيا، في العهد الإيطالي، من الطائرات جواً، إلى أن تتحطم عظامهم، عبرة علمانية لمن يعتبر، أنسيتم معتقلات العقيلة؟ أم أنَّ عثمان ابن عفان (رضي الله عنه) كان يقود الدولة الإيطالية، التي قتلت وشردت وشنقت نصف سكان ليبيا. هل كانت تلك الدولة، دولة إسلامية؟ هل كان أبوبكر الصديق (رضي الله عنه)، خليفة لفرنسا، عندما فعلت، فرنسا الديموقراطية، العلمانية، الليبرالية، الحرة ما فعلته في أبناء ملتنا، أو إن شئتم أبناء عروبتنا، أو إن شئتم جيراننا، من الجزائريين.

أيدري أصحاب تلك الأقلام التي تتصيد السقطات في تاريخنا أن القوات المسلحة الفرنسية، في حادثة واحدة فقط، أبادت قبيلة بأسرها، بعد أن هرعت تلك القبيلة هرباُ من القوات الفرنسية الليبرالية العلمانية الحرة، إلى بعض الكهوف في إحدى المناطق، فأوقدت القوات الفرنسية النار على مداخل تلك الكهوف وأخذت تصطاد بعلمانية وحداثة وليبرالية منقطعة النظير، كل من يحاول الهرب من الكهوف، بسبب الدخان، اصطادت الأطفال والنساء والرجال والحيوانات، وأبادت القبيلة بأكملها، بينما يتغامز الجنود ويتضاحكون.

ولا أظن أننا نسينا، لا سمح الله، فضائع الصرب ضد عشرات الآلاف من النساء، اغتصبن والعالم العلماني الليبرالي الحر، يحاصر البوسنة حتى لا تصل طلقة واحدة للمسلمين. بينما تشحن وعلى مدار الساعة، مئات الأطنان من الأسلحة والقنابل الحارقة والطائرات الماحقة الساحقة لقتل وحرق وسحق أطفال ونساء ورجال العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان.

أنسيتم عشرات الملايين، من البشر الذين أخذتهم محرقة الحرب العالمية الأولى والثانية، هل قاد تلك الحروب “أبو هريرة” أم “معاوية” أم “علي بن أبي طالب”، أم قادها أقوام تحت راية الحاكمية لله.

ألم تُدمر تلك الحروب الأخضر والأسود والأصفر والأحمر واليابس، ألم تحرق تلك الحروب الحجر والصخر والشجر، ألم تقضِ على عشرات الملايين من فصيلة البشر، ألم تدمر قارات كاملة، ودول بأكملها، بما في ذلك ليبيا. روسيا واليابان والصين ودول أخرى لم تقصر في المساهمة في جهود إبادة البشرية. روسيا عل سبيل المثال حاصرت القرم حتى أكل الناس أطفالهم. وعلق الروس قائلين، لا بأس، دعوهم يفعلون ذلك.

أكتفي بما أسلفت من نماذج متواضعة جداً جداً جداً، من العنف العلماني، والقتل الليبرالي، والإبادة الاستعمارية، والدمار الشامل الحداثي، والتنكيل بالبشر الذي تمارسه الأنظمة الغربية والعربية والشرقية التي تتبنى مبدأ فصل الدين عن الدولة، أكتفي بذلك، لأنَّ كل ما ذكرته، يندرج تحت باب “ما هو معروف من التاريخ بالضرورة”، وأكتفي، من جهة أخرى، لأنني مهما حاولت في هذه العجالة أن أصور فضائع العلمانية والليبرالية ضد الشعوب عبر التاريخ القديم والمعاصر، بل ضد بعضهم البعض، وفضائع الذين يفصلون الأديان والقيم والمبادئ عن السياسة – مهما حاولت – سيصيبني الفشل حتماً.

ولا أود في نفس الوقت، أن أنتقص من هول هذه الفظائع ضد البشر، إلا إذا كانت الأقلام التي تتمتع بالطعن في تاريخنا وشخصياتنا وهويتنا وحروبنا، لم يحصل لها الشرف حتى الآن، بالاطلاع على بعض تلك الفظائع لأنهم يعيشون في “زحل”، حيث لا تصل المطبوعات والمسموعات والمرئيات.

أما إذا استطاعت بعض الأقلام، صاحبة القلوب الميتة، أن تجد مبررات ما، لـ “جون” و”مايك” و”البرت” و”جورج” وشاخاروف، وماخاروف، والملك سلمان، والرئيس السيسي ومن على شاكلتهم من أهل الجاهلية والتخلف والعنجهية، مبررات – تجدها الأقلام المريضة – لقادة العرب وغير العرب، من الذين لا يطيقون لفظة الدين والإسلام والمسلمين، ومن الذين يتمتعون بفصل الدين عن الدولة…

إذا وجدت تلك الأقلام أو غيرها، المبررات والأعذار لما مارسه وما يمارسه أولئك من عنف ضد البشر والبشرية، فهل للمسلمين من نصيب في مثل هذه المبررات، ولو من باب “أولي القربى أولى بالمعروف”– على أقل تقدير- إلا اذا كان “أبوبكر” و”عمر” و”عثمان” و”علي” والصحابة الكرام والتابعون وتابعو التابعين وخلفاء وأمراء المسلمين (رضى الله عنهم)، والعلماء والمصلحين وغيرهم، ليسوا من أولي القربى.

أمر آخر لا بد أن أنوه إليه…

وهو أن حديثي في هذا المقال ليس هجوما أو دعما لليبرالية أو الديموقراطية أو العلمانية في حد ذاتها، بل أود – عبر هذا المقال – أن أقول إن منظومة ومجموعة المفاهيم التي تشكل العلمانية، والحداثة والليبرالية، والداعية إلى فصل الدين عن الدولة، لا تعني ولا تضمن على الإطلاق، الخلو من العنف، والإرهاب، والظلم، والدمار، والقتل، والتدمير، والاعتداء على الأمم والحكومات والمدنيين، ظلماً وعدوانا.

نقول ذلك ونحن ندرك أن العنف العلماني لا يبرر العنف باسم الإسلام (والإسلام بريء من العنف)، وإن إصلاح الممارسات باسم الإسلام، لا تتم بالانبطاح إلى الدمار العلماني، بل بإصلاح ما يمكن إصلاحه ببدائل ووسائل من داخلنا. بدائل ووسائل تناسب ثقافتنا وهويتنا.

ولن يتم إصلاح هذه الممارسات، أيضاً، بترك هويتنا والغدر بها، فمن يغدر بهويته أو ينسلخ عنها أو عن ثقافته، فسينسلخ عن قيمه وتقاليده وأصالته، ويفقد انتماءه لشعبه ومحيطه، ويجد نفسه في دوامة البحث عن هوية أخرى قد تستوعبه دون أن يستوعبها، فيصبح كماً مهملاً، لا انتماء ولا دور له في هذه الحياة، بل يصبح ضحية من ضحايا التقليد الأعمى الخاوي من الأصالة والتفوق والإبداع، وما خُلقت أمتنا إلا لتكون مصدراً، للأصالة والتفوق والإبداع، والله ولي التوفيق.

د. فتحي الفاضلي