طرابلس مدينة الحب والثقافة والأمان، ومدينة الحضارة والجمال والسلام، حولها معمر إلى ساحة تعج بأحذية الجند والمرتزقة والبنادق والخوذات والحراب، وتعج بالدبابات والبوابات والمدرعات. شوهها بالدم وبمقرات الأمن والمشانق والمخابرات، والسجون والجثث والمقابر والأقبية والمعتقلات.

فعل معمر القذافي ذلك، وأهل طرابلس أبرياء من القذافي وأعوانه وجنده وأذياله الذين احتل بهم المدينة منذ وصوله إلى السلطة، فقد جلب لها الجهلة والسقطة والسفلة، من كل حدب وصوب، وسيطر بهم على المدينة، التي نبذتهم، ونبذت سلوكياتهم ونبذت ممارساتهم الإرهابية البشعة، التي مارسوها ضد الليبيين، باسم طرابلس.

لقد فُجعت طرابلس في أئمتها وشيوخها ومثقفيها وطلبتها وشبابها وصحفييها وكتَّابها ونخبها، وفُجعت في معالمها ومساجدها وجامعاتها ودور العلم فيها، واُهينت كرامة أعز وأشرف وأنبل أبنائها، وشُنق خيرة شبابها وأكثرهم تقوى وكرامة وعزة نفس.

وفي هذا العرض – سأسرد باختصار- قطرة من بحر، مما عانت طرابلس، كما عانت غيرها، من مدن وقرى ومناطق ليبيا تحت سلطة ذلك الطاغوت، المجنون. 

لقد هاجم القذافي السُّنَّة النبوية الشريفة علناً، وللمرة الأولى، في اجتماع له مع مجموعة من حفظة القرآن الكريم في جامع مولاي محمد بطرابلس، في 3 يونيو من عام 1978م، وهو الاجتماع الذي مدح فيه كمال أتاتورك، وأعلن فيه وجوب العمل بكتابه الأخضر، ونبذ السنة النبوية. وأذكر جيداً، مدى غضب واستياء أهالي طرابلس، شيباً وشباباً، نساءً ورجالا، من هذا الهجوم الوقح على النبي الكريم وأحاديثه الشريفة، وهذا الاستهتار بقيم الدين الحنيف وهي المدينة التي أحبت الرسول الكريم، وارتبطت به قلباً وروحاً وقالباً.

وفي أحد الأيام، من عام 1979م، سمع أهالي طرابلس دوي انفجار هائل عند الساعة الثالثة صباحاً، سمعه أهالي طرابلس، وعند بزوغ الشمس، رأى الناس ما حز في نفوسهم، بل وفي نفوس الليبيين إلى يومنا هذا، فقد رأوا مسجد “سيدي احمودة”، الذي يقع في أحد أطراف ميدان الشهداء، وقد سوي بالأرض تماما. 

وإذا كان تدمير مسجد يصلي فيه الناس يعتبر جريمة، فقيمة مسجد “سيدي احمودة” الرمزية والتاريخية وارتباطه بالوطن والوطنية، يجعل من جريمة هدمه خيانة للشهداء والوطن. فمسجد “سيدي احمودة”، يعتبر رمزا، تكاد تبلغ قيمته المعنوية والتاريخية والنضالية القيمة الرمزية العظيمة لضريح شيخ الشهداء عمر المختار.

فسيدي احمودة، رجل صوفي عابد من سكان مدينة طرابلس، كان له تأثير وطني كبير على الناس، وكان يغرس في نفوسهم روح اليقضة والحذر وحب الوطن والحرص عليه وحمايته، فقتَلتْه – كما تواتر – مجموعة من يهود طرابلس، ذبحا، فدفنه الأهالي، وبنوا على قبره أو بجواره مسجدا عُرف باسمه رحمه الله، ثم أنشئت مكتبة ضخمة، تابعة للمسجد. وهكذا حرم النظام مدينة طرابلس، بل حرم ليبيا من معلم نضالي وتاريخي يذكرهم بالحرية وحب الوطن والنضال. 

ليس ذلك فحسب، بل إمعانا في طمس كل ما يمت إلى عزة وحرية وكرامة الشعب الليبي بصلة، غَيَّر القذافي اسم الميدان الذي يقع فيه مسجد “سيدي احمودة” من “ميدان الشهداء” إلى “الساحة الخضراء”، فطمس بذلك معنى آخر، ارتبط أيضا بالحرية والنضال والجهاد والكفاح. من أجل إشباع أمراضه وأهوائه، في تقليد غيره من أصحاب الساحات الحمراء والزرقاء والصفراء.

ويا ليت الأمر توقف عند ذلك الحد، بل حول معمر القذافي ميدان الشهداء إلى ساحة لاستعراضاته واحتفالاته وثرثرته الجوفاء. استعراضاته الورقية بالدبابات والصواريخ والمدرعات والجنود الملثمين بالخرق الخضراء وبميليشياته وميليشيات أبنائه، والتي انقلبت بعد كل تلك الاحتفالات والاستعراضات، على الشعب الليبي، ذبحاً وسحلاً وتقتيلا. 

وفي عام 1979م أيضاً، ألقى القذافي من قلب ميدان الشهداء، خطاباً دعا فيه إلى الاستيلاء على أرزاق الناس، فشعر أهالي طرابلس بالغبن والإهانة والحرج، أن ينعق منها وفيها هذا الطاغوت الأهوج، بهذا الكم الهائل من الظلم، الذي وقع على الشعب الليبي بأسره، وهي المدينة التي تعشق أن تكون للجميع. 

وتحول قصر الملك محمد إدريس السنوسي (رحمه الله) وهو مَعلم من المعالم التاريخية الجميلة في طرابلس، تحول إلى المقر الرئيسي للاتحاد الاشتراكي العربي، ثم المقر الرئيسي للجان الثورية، أو بالأصح اللجان الإرهابية، وكانت هذه المؤسسات وهذه اللجان تمثل في وقتها رمزاً للقمع والتنكيل والتدجيل، بل رمزاً للطاغوت نفسه. 

ولم تنته أحزان طرابلس عند هذا الحد، فقد ظهر في أوائل الانقلاب المشؤوم خيرة تجار طرابلس وأكثرهم مكانة وصدقاً وأمانة، من الذين خدموا الوطن طوال حياتهم، ظهروا على شاشات التلفزيون، على الهواء، وشلة من كلاب الدم يهينونهم ويوبخونهم ويصرخون في وجوههم وينعتونهم بأحقر الأوصاف والنعوت والصفات، ويتهمونهم بالغش والسرقة والنصب، بينما عائلات هؤلاء الضحايا، بما في ذلك زوجاتهم وأبناؤهم وبناتهم، بل أهل ليبيا بأكملها، يشاهدون ذلك على الهواء مباشرة والضحايا أبرياء مما ينسب إليهم من تهم زائفة مختلقة باطلة، براءة الذئب من دم يوسف. 

وفُجعت طرابلس، في نوفمبر من عام 1980م، بشلة من أذيال الطاغوت وجنده وعملائه، وقد اقتحموا مسجد الشيخ البشتي (رحمه الله)، كما كان يُعرف، وأرعبوا المصلين وحاصروا الشارع الذي يقع فيه المسجد، ودنسوا المسجد بل دنسوا المدينة بأكملها، وأخرجوا الشيخ البشتي وقد بلغ من العمر عتياً، مجرورا من لحيته بالضرب والصفع واللكم، كما فعلوا نفس الشيء بالمصلين، صفعاً وضرباً وركلاً.

ثم حاصروا منطقة المسجد بأكملها، وأرعبوا سكان المدينة واعتقلوا كل من طالته أيديهم من شباب في عمر الورود، وقبضوا على العشرات وحققوا مع مئات العائلات، بما في ذلك النساء والعجزة والأطفال على اعتبار أنهم من تلاميذ الشيخ البشتي أو اتباعه أو مناصريه.

ولم ينج من صلفهم ورعونتهم وظلمهم ودنائتهم، شيخاً ولا طفلاً ولا ضعيفاً ولا كبيراً ولا صغيراً، وعاشت المدينة في رعب لا أول له ولا آخر. ثم قُتل الشيخ البشتي، فخسرته ليبيا بأسرها، كما قُتل بعض تلاميذه، منهم الشابان الشهيدان بإذن الله لطفي إمقيق ومنير دوزان، وقد قتلا تحت التعذيب. 

وأهينت دار الإفتاء، في طرابلس، وأهين الشيخ الطاهر الزاوي، مفتي ليبيا الذي اختار أن يكون مفتياً للوطن، لا مفتيا للسلطان. أُهين على الهواء مباشرة، وقد بلغ من العمر عتياً، واختَطف منه أحد أذيال النظام مكبر الصوت وهو يُفند على الهواء مباشرة أقوال وفتاوى وقرارات معمر القذافي، فيما يخص الاستيلاء على بيوت الناس وأرزاقهم، وفيما يخص أيضا، شهر رمضان ورؤية الهلال، وعدة فتاوى وآراء أخرى أراد القذافي أن يفرضها على الناس، وأن يلبسها لباساً شرعياً، مستغلاً مكانة وعِلم الشيخ الطاهر الزاوي، الذي وقف له بالمرصاد. 

وفجعت المدينة، أيضا، في خيرة أبنائها شنقًا واغتيالاً وقتلاً، في الداخل والخارج، فجريمة اغتيال الإذاعي والكاتب محمد مصطفى رمضان، ابن ليبيا وابن طرابلس، لازالت عالقة في أذهان الليبيين إلى يومنا هذا، فقد اُغتيل الرجل الطيب أمام مسجد لندن بينما جبينه مازال ساخناً من أثر السجود، لقيوم السموات والأرض. 

وفُجعت ليبيا، وفُجعت طرابلس في السيد عبد الجليل عارف، الذي أَطلق عليه أحدُ كلاب الدم النارَ في التاسع عشر من أبريل من عام 1980م، بينما كان الضحية جالساً بين بناته وزوجته، فسقط مضرجا بالدماء، بعد أن قفز أحد أعضاء اللجان الإرهابية كالشيطان أمام طاولة كان يجلس عليها السيد عبد الجليل عارف وأسرته، وأفرغ رصاصات مسدسه في صدر ورأس الشهيد، فسقط على الأرض مضرجاً بدمائه تحت سمع وبصر زوجته وبناته. 

واغتيل الشهيد محمد سالم عاشور فحيمة، ابن ليبيا وابن سوق الجمعة في اليونان، في 1987م، خسة وغدراً وخيانة، بل طورد الشهيد حتى بعد موته، حيث حاول الطاغوت تشويه قبر الشهيد والعبث به وطمس معالمه بعد سنوات من اغتياله.

وفُجعت مدينة طرابلس في ابن بار لها أحب وطنه ليبيا وأحب المدينة وأحبته، فُجعت في الشهيد عامر الدغيس الذي طُوق بيته في طرابلس، في ساعات متأخرة من الليل، فأرعبوا الأهالي ببنادقهم وسياراتهم ورشاشاتهم، واقتيد الأستاذ عامر إلى معسكر باب العزيزية، حيث أجري معه تحقيق حول تهم عدة ملفقة وجاهزة ومحفوظة في أرشيف “الثورة”، قضايا حول: مواقفه الوطنية وعلاقاته بالمعارضة ومحاولة تدبير انقلاب ضد “الثورة البيضاء.”

وبعد ثلاثة أيام من التعذيب الشديد، وبالتحديد في يوم الأربعاء الموافق للسابع والعشرين من شهر فبراير من عام 1980م، أسلم روحه إلى بارئها، وسُلم جثمانه لذويه في صندوق محكم الإغلاق، وادعى النظام أنه مات منتحراً. وأشرف رجال الأمن على دفنه دون فتح الصندوق، فقد مُنع أهله وذويه من رؤية الجثة، إلا الوجه.

وفي اليوم التالي لاستشهاده، شيعته جماهير ليبيا في طرابلس، وهي تهتف “الله أكبر”، في موكب جنائزي لم تعرفه ليبيا من قبل. وقام الشهيد “محمد حمي” (رحمه الله) ابن بنغازي البار بتأبينه علنا في وسط مدينة طرابلس، في موقف يعتبر في ذلك الوقت من المواقف البطولية النادرة، فتأبين رجل بوزن الشهيد الدغيس، يعتبر من أعلى مستويات التحدي للنظام الطاغوتي في ليبيا. وهكذا، بكت ليبيا وبكت طرابلس، ابنا باراً مخلصاً من أبنائها، لا ذنب له إلا أنه أحب ليبيا وأهل ليبيا، وأنكر ذاته وأنكر كذلك مصالحه ومصالح أسرته في سبيل الوطن الذي أحبه. 

واختطف سالم الرتيمي، رجل الأعمال الذي تعرفه طرابلس جيداً، وقُتل داخل السفارة الليبية في روما، خنقاً ثم طعناً ونُقلت جثته الطاهرة، في أحد أيام شهر مارس من عام 1980م، في صندوق سيارته الخلفي إلى إحدى الغابات وتُركت هناك، ثم عثر البوليس الإيطالي على الضحية مقتولا وآثار الطعن والخنق واضحة على الجثة التي تُركت في حقيبة السيارة الخلفية، وقتا طويلا. 

وفُجعت طرابلس في الشهيد المحامي محمود نافع، بعد أن أَطلق عليه النار في مكتبه أحدُ أعضاء اللجان الإرهابية، فسقط مضرجاً في دمائه، ويعتبر الشهيد من أوائل فرسان الكلمة الصادقة، ضد طاغوت ليبيا، فهو صاحب المقولة الشهيرة الذي تضمَّنها كتابه “حقوق الإنسان والحريات الأساسية في ديكتاتورية القذافي” والذي قال فيه: “إذا كانت هناك ثمة حرية يتكلم عنها القذافي، فهي حريته المطلقة في إهدار حقوق المواطن الليبي وانتهاك حرياته الأساسية والسياسية” وتكمن أهمية هذه الكلمة في أنها جاءت مبكرة جداً، أي أثناء السبعينات، وأثبتت الأحداث يوميا وطيلة أربعة عقود، صحة هذه المقولة. 

وتعرَّض خيرة مثقفي المدينة وكُتَّابها ونُخبها وأساتذة جامعاتها وُمدرِّسيها وصُحفييها وعلمائها وأئمتها إلى أسوإ أنواع القمع والتصفية والتنكيل. فطورد منهم من طورد، وعُذب من عُذب، وقُتل من قُتل، وأُعدم منهم من أُعدم، ومات منهم في المنفى القسري من مات، ومات منهم في السجن من مات، وتشهد سجون ومعتقلات ومعسكرات طرابلس على كل ذلك. 

أما في القطاع العسكري، فقد فقدت مدينة طرابلس العشرات من خيرة شبابها، في القوات المسلحة، قتلاً وشنقاً وتعذيباً، ومن جميع القطاعات، البحرية والمشاة والطيران، وغيرها من القطاعات العسكرية الأخرى. 

أما المعاهد والمدارس والجامعات ودور العلم بصفة عامة، فحدِّث ولا حرج، فقد أُغلقت المعاهد الدينية في المدينة، بما في ذلك معهد مالك بن أنس الشهير. كما اقتحمت شلة من اللجان الثورية أكثر من مرة كليات التربية والهندسة والصيدلة والزراعة والعلوم، طيلة سنوات 1973 و 1975، و1976م، 1977م، و 1982م، وسنوات أخرى كثيرة.

واقتحم جند النظام، القسم الداخلي لجامعة طرابلس أكثر من مرة أيضا، وأعتقلوا العشرات من الطلبة، وخصصوا غُرفا دائمة للضرب والتعذيب والتحقيق مع الطلبة. وطُرد عشرات الطلبة من مقاعدهم الدراسية، وأصبحت جل هذه الممارسات عادة يمارسها النظام من حين إلى آخر، وكلما أحس بما قد يقلق مضجعه. 

وتظاهر طلبة جامعة طرابلس في عام 1973م ضد قرارات النظام الجائر، وطالبوا بإطلاق سراح المساجين وضمان حرية الرأي واستقلالية اتحاد الطلبة، وخرجوا من كليات الزراعة والهندسة والتربية والعلوم، في مظاهرة إلى ميدان الجزائر، فحاصرتهم قوات الصاعقة وطوقت الميدان من كل جانب وأغلقت مداخله، وكان رجال الصاعقة الملثمون يعتقلون الطلبة ويرمونهم في باصات، تحملهم إلى أماكن لا يعلمها إلا الله. 

ليس ذلك فحسب، فمهما نست طرابلس وأهل طرابلس، فلن ينسوا شهر أبريل من عام 1983م، وقد جُرجر الطالب الشاب محمد امهذب احفاف إلى حبل المشنقة، في وسط ساحة كلية الهندسة بجامعة طرابلس، وقد اقتيد بالضرب والصفع والركل. وكان الطلبة قد جُمعوا من كافة الكليات، بل وجُمع معهم طلبة المدارس الثانوية، دون أن يعلموا ما ينتظرهم من طقوس ثورية. وإذا بهم يشاهدون ما يشيب له الولدان، فقد لُف حبل المشنقة حول عنق الشاب محمد امهذب احفاف، والجموع ينظرون إلى هذا المشهد المرعب، ثم أخذ بعض من كلاب الدم يتأرجحون في جثته الطاهرة وهم يصرخون ويغنون وينعقون بأهازيج القائد ويمارسون مختلف الطقوس الثورية حول جثة الضحية.

وتعرضت الطالبات اللائي أظهرن امتعاضا أو أطلقن صرخة احتجاج، أو صرخة رعب ورهبة وخوف أو أُغمى عليهن من هول المشهد، تعرضن إلى الصفع والضرب والتهديد. 

وتكرر نفس المشهد الدموي في 1984م، حيث شُنق كل من: حافظ حسين المدني الفقهي ورشيد منصور كعبار، في ساحات كليات الزراعة والصيدلة في جامعة طرابلس بنفس الطريقة، وهم من خيرة وأفضل وأنبل شباب ليبيا وشباب طرابلس، علماً وأدباً وتقوى. اقتيدوا إلى المشانق وشُنقوا على مرأى ومسمع من جموع الطلبة ومارسوا معهم، نفس الطقوس المعهودة من تأرجح في جثثهم وهتافات وأشعار وأهازيج.

وفي أوائل السبعينات، قُتل أحد طلبة جامعة طرابلس في معسكر التكبالي بطرابلس، بسبب قسوة وعنف التدريبات التي كان الطلبة يتلقونها تحت اسم “التدريب العسكري العام”، وكان الغرض الحقيقي من هذه التدريبات هو إرهاب وإهانة الطلبة من جهة، وشق الصف بين القوات المسلحة والقطاع الطلابي من جهة أخرى، وتشتيت أذهان الطلبة وإهدار طاقاتهم ومواهبهم وإبداعاتهم في ما لا طائل من ورائه من جهة ثالثة. وكان بعض الموالين للنظام يتباهون في تلك الفترة ويتنافسون، أيهم أشد على الليبيين قمعاً؟!!. وقد تلقى القطاع الطلابي والأهالي في طرابلس خبر موت زميلهم تحت “التذنيب”، بغضب وحزن وأسى. 

ولم يسلم القطاع الرياضي من ممارسات الطاغوت الإرهابية، وممارسات زبانيته، فقد قُتل لاعب نادي الاتحاد والمنتخب الليبي، اللاعب المبدع بشير الرياني رحمه الله، أحد نجوم كرة القدم في ليبيا والذي أحبته جماهير الكرة في طرابلس، بل جماهير الكرة في ليبيا بأكملها. 

أما رواية القتل، فتشبه روايات الرعب التي يشاهدها العالم عبر الأفلام، ويشاهدها الليبيون على أرض الواقع. فقد طلب الساعدي – حسب ما تواتر – من الضحية السيد بشير الرياني، أن يجثو على ركبتيه وأن يرفع رأسه إلى أعلى، ثم أخذ الساعدي بضرب الضحية بمطرقة على فمه، إلى أن هشم أسنانه، ثم واصل الساعدي الضرب بالمطرقة على رأس الضحية، وانتهى المشهد بإطلاق عيارات نارية على السيد بشير إلى أن فارق الحياة. ورميت بعد ذلك جثة الضحية على شاطئ البحر، كما جاء في إحدى الروايات، أو في إحدى ساحات المدينة.

ومن المرجح أن تفاصيل هذه الجريمة، قد تسربت عن طريق أحد العاملين في المصيف الذي جرت فيه الجريمة (ربما المصيف البلدي). ويروى أن الضحية ربما شعر عندما تم استدعاؤه، بأن أمر ما يدبر له بليل من قبل الساعدي، فأعلم زوجته بوجهته.

ومهما تعددت الروايات واختلفت التفاصيل، واختلفت حيثياتها، إلا أن حقيقة الجريمة (أي مقتل السيد بشير الرياني) وتورط الساعدي فيها، بشكل أو بآخر، أمران مؤكدان. وهكذا، فقدت ليبيا، ابنا من أبنائها ذهب ضحية هذا النظام الأرعن الأهوج، وضحية أهواء وأمراض القائمين عليه. 

ولف الحزن مدينة طرابلس، عندما أطلق الحرس الخاص للساعدي القذافي النار على الجماهير المدنيين العزل من مشجعي الكرة، أثناء أو عقب إحدى المباريات، بين فريقي الأهلي والاتحاد، التي جرت في مدينة طرابلس، فعندما هُزم الساعدي في تلك المباراة، انطلق الجمهور يهتف معبرا عن سخطه لسوء أداء الساعدي الذي كان السبب في الهزيمة حسب ما رأى الجمهور، فأمر الساعدي عندئذ حرسه المدججين بالسلاح، والذي كانوا برفقته بإطلاق النار عشوائيا على الجماهير، فقُتل العديد منهم، وجرح الكثير لمجرد أنهم تفاعلوا كمشجعين مع وقائع وسير المباراة. وهكذا، تحولت المباراة إلى مذبحة، سقط فيها القتلى والجرحى ولفَّ المدينة الرعب، وتوشحت في ذلك اليوم وما تلاه من أيام بل أسابيع وسنوات بالسواد ولفترة طويلة بسبب تلك المذبحة. 

ولفت الأحزان مدينة طرابلس أيضا، عندما اختفت إحدى فتيات طرابلس من السيدات الكريمات العفيفات الفاضلات، بينما كانت تُجهز وتستعد لعرسها، وكانت تقوم بإعداد برنامجاً أو شريطاً مصوراً يضم بعض ذكرياتها، أرادت أن تعرضه في حفلة عرسها كجزء من برنامج الفرح. لكنها اختطفت قبل أسبوع واحد من موعد الفرح، واختفت إلى يومنا هذا. 

وبعد فترة، تسربت أخبار من داخل أحد السجون، عن طريق إحدى السجانات، تقول إن الفتاة التي جُن جنون ذويها بحثا عنها، موجودة في ذلك السجن، وأنها متهمة بمحاولة تفجير إحدى المباني أو المنشآت أو الأشخاص، بعد أن ارتدت حزاماً ناسفاً، كانت تنوي أن تُفجر به نفسها.

وعلى القارئ الكريم، محاولة استنتاج حقيقة ما حدث لهذه السيدة الكريمة، التي كانت تعد لعرسها مع صديقاتها فقررت، هكذا وبدون مقدمات – وحسب رواية النظام الطاغوتي – أن ترتدي بدلاً من ذلك، حزاماً ناسفاً قبل أسبوع من عرسها لتنسف به ما تنسف مما ادعى النظام. ليس ذلك فحسب، بل من يصدق أن يتركها النظام على قيد الحياة، لو كان معشار هذه التهم صحيحة. 

واستولت عائلة القذافي على سوق الثلاثاء بطرابلس بأكمله، وتحول إلى سوق واحد، تمتلكه بنت القذافي، وكانت آلاف العائلات تسترزق من تجارتها في هذا السوق. وتلقى أصحاب المتاجر والأعمال وبعض السكان القريبين من سوق الثلاثاء – تلقوا – إنذارا بإخلاء متاجرهم ومساكنهم، والتخلي عنها قسرا، مقابل تعويضات رمزية تافهة.

وهكذا، هُدم سوق الثلاثاء، وتحول كما ذكرنا إلى سوق واحد تمتلكه عائشة القذافي، أرضا وتجارة. وكان أمر الإخلاء أمرا قسرياً، أي لا تهم موافقة المواطن على الإخلاء أو على قيمة التعويض أو على عدم موافقته، فقرار الهدم تم تحت مقولة “إزلة لغرض التطوير”، قرار جاهز للتنفيذ، استلم المواطن التعويض أو لم يستلمه.

ويعتبر سوق الثلاثاء، من جهة أخرى، معلما من معالم طرابلس وجزءا من تاريخها. وهكذا خسر الناس مصدراً رئيسياً من مصادر أرزاقهم، وخسرت طرابلس سوقاً شعبياً، التصق بها اجتماعياً واقتصادياً وتاريخياً. 

وعقب عملية مايو 1984م، وضع كلاب الدم، جثث شهداء مايو: خالد علي يحيى امعمر، وعبد الناصر عبد الله الدحرة، ومجدي الشويهدي، وسالم إبراهيم القلالي، ومصطفى الجالي أبو غرارة، ومحمد ونيس الرعيض، وجمال محمود السباعي، ويحيى علي يحيى امعمر، ومحمد هاشم الحضيري، وعبد الله الماطوني، وسالم طاهر الماني، وضعوهم في سيارة من سيارات القمامة، طافت بجثث الشهداء الأبرار في شوارع المدينة، وأرغموا الأهالي على النظر إلى الجثث التي فُرمت فرماً، إمعاناً في إرهاب الناس، وكان كلاب الدم يهتفون كالمجانين بطقوس “الثورة”، وبحياة القائد وأبدية الفاتح، ثم طرحوا بقايا الجثث في الساحة، وتُركت لفترة طويلة شماتة في الشهداء الأبرار.

ثم أرعبوا المدينة بحملات بحث وتفتيش، عمن أسموهم بالإرهابيين، فاقتحموا بيوت الناس وأرعبوا الأهالي واعتقلوا وعذبوا وحققوا مع المئات، وعاشت طرابلس كما عاشت ليبيا أيام رعب لن تنساها طرابلس. 

وشُنق الشهيد عثمان علي زرتي على خلفية أحداث مايو، في سوق الجمعة علناً، وتدلى المجرمون من اللجان الثورية في جثته وهم يهتفون بحياة الفاتح والثورة والقائد. وهُدم بيت الشهيد تحت سمع وبصر زوجته وأولاده، بل يروى أن زوجته لم تغادر المنزل إلا عندما بدأ الهدم فعلياً، طمعاً في أن يتراجع المجرمون عن هدم مأواها ومأوى أطفالها بعد أن فقدت زوجها الشهيد. وقد كانت السيدة الفاضلة تحاول أن تثني من عزمهم عن هدم بيتها، لكن هيهات. 

كما حوصرت طرابلس بمؤسسات الرعب، وتحول معسكر باب العزيزية في طرابلس إلى مقر دائم لقيادة الطاغوت، وأصبح هذا المقر مركزا للخطف والمؤامرات والقتل. وحول النظام الطاغوتي المدينة إلى منطقة عسكرية، فأحاطها بالمعسكرات وبمقرات الأمن والسجون ومكاتب المخابرات والمعتقلات، كبوسليم والحصان الأسود وغيرها من مؤسسات القمع والتعذيب والتنكيل التي زرعها في مدينة طرابلس، وكان أهل المدينة يشاهدون الطاغوت على مضض وهو يعبث بمدينتهم دون رحمة. 

وتسببت ممارسات القذافي الإرهابية وجرائمه وغدره في عدة أماكن في العالم في قصف مدينتي بنغازي وطرابلس، في عهد الرئيس “ريغان”. كما تسببت تصرفاته وغدره بالشعب الليبي وانقلاب ميليشياته وكتائبه الإرهابية على الليبيين (أثناء ثورة 17 فبراير) بالإضافة إلى استجلاب المرتزقة أو القتلة الأجانب لذبح الليبيين، بدلاً من حمايتهم. كما استخدام الطيارين الأجانب في قتل الليبيين، تسببت هذه التصرفات الرعناء في تدخل المجتمع الدولي وتدخل الناتو، الذي قصف مقرات القذافي العسكرية والأمنية وقصف مراكز اتصالاته ومعسكراته ومخازن الذخيرة التي وضعها بين الأحياء المدنية في طرابلس، ولك أخي القارئ، أن تتخيل ما يعانيه أهل طرابلس جراء ذلك. 

أما أكثر ما كان يؤلم أهل طرابلس، فوجود سجن أبوسليم بها، وكراهية أن يلتصق هذا المعتقل الكريه بمدينتهم، خاصة وقد اشتهر هذا المعتقل البشع بالمذبحة التي راح ضحيتها 1270 إنسانا من خيرة أبناء ليبيا.

بل وأصر القذافي أن يلتصق اسم طرابلس بالسجون والمعتقلات والتحقيقات وبأغلب أجهزته وقواته وأدوات تعذيبه ومكاتب مخابراته. وقد كان في إمكانه أن يختار مدينة أخرى، كمدينته سرت على سبيل المثال، ولكن اختياره طرابلس لتضم أبوسليم والحصان الأسود وكافة مؤسساته الاستخباراتية والقمعية والأمنية ومراكز الاتصالات واللجان الثورية، ليس لأن طرابلس هي العاصمة، بل لحاجة في نفس فرعون، فاختيار طرابلس لمثل هذه الأمور كان من أهم وسائله الخبيثة لإحداث فتنة بين الليبيين، فطرابلس وأهل طرابلس أبرياء من القذافي ومن أجهزته ومقراته ومعتقلاته وممارسات أعوانه.

طرابلس وثورة 17 فبراير… 

خرج المتظاهرون في عدة مناطق، في طرابلس بالآلاف، وخاصة في الأيام الأولى للثورة وهم يهتفون “بالروح بالدم نفديك يا بنغازي” فجُن جنون القذافي. وارتدى المرتزقة وأفراد الكتائب الأمنية في طرابلس ملابساً وقبعات تميزهم عن الجماهير، حتى لا يُهاجموا بعضهم البعض من جهة، وحتى يلقون الرعب في الناس بكثرتهم من جهة أخرى. كما ارتدى بعضهم الآخر ملابس الدعم المركزي، إمعاناً في التمويه. وتجمع المرتزقة في مبانٍ معينة في انتظار البدء، في إنجاز مجازرهم (مصنع التبغ) مثلا، وتمركز القناصة على أسطح أعلى المباني، كمصرف الأمة والسرايا الحمراء على سبيل المثال. 

ثم انتشر الآلاف من المرتزقة وكتائب الأمن في أحياء طرابلس، يصولون ويجولون في شوارع المدينة، يطلقون النار على الحجر والبشر والشجر، وقاموا بمذابح يشيب لها الولدان. ناهيك عن المدرعات التي كانت تجوب شوارع المدينة وتقصف مناطقها، وتقصف معها البشر عشوائيا، بل وبالقذائف المدفعية دون تمييز. وقد كان ذلك مصحوبا بالقصف الجوي لبعض المناطق بالمقاتلات والمروحيات (الهليكوبتر). وانتشرت بوابات التفتيش والحواجز في أغلب مفترقات الطرق، وقُطعت الاتصالات عن المدينة بنِيِّة عزلها عن العالم.

وهكذا امتلأت المدينة برجال الأمن والمرتزقة وكتائب ومليشيات القذافي المجانين القتلة، الذين كانوا يهرولون في الشوارع، يحملون العصي والبنادق والرشاشات، بل وكان بعضهم يحمل السيوف والخناجر والسواطير، وهم يطاردون المدنيين العزَّل ضرباً وطعناً وإرهاباً وتقتيلاً. وشوهدت سيارات يقودها كلاب الدم، تدهس البشر في شوارع المدينة. وتواترت أخبار عن استخدام بعض أذيال النظام، لحامض “الأشدو” لتشويه الناس، وقد أكد هذه الأحداث أطباء وممرضون في المستشفيات وفي غرف الطوارئ بالذات. 

وتعرضت أغلب مناطق وأحياء وشوارع وميادين طرابلس إلى موجة من الرعب والمجازر والمذابح والإرهاب، بما في ذلك فشلوم وعرادة وسوق الجمعة وتاجوراء والنوفليين وزاوية الدهماني ومشماشة وقرجي وحي الأندلس وغوط الشعال والظهرة والصريم وبن عاشور وسيدي خليفة وقرقارش والهضبة الخضراء وباب عكارة والهاني والسياحية وراس حسن وسيدي المصري وباب بن غشير والدريبي والفرناج وميدان الجزائر وميدان الشهداء وميزران وشارع عمر المختار وشارع الجمهورية وشارع الاستقلال وطريق السور، وغيرها من شوارع وضواحي، وأحياء وميادين طرابلس. 

وكان الغدر بالمتظاهرين من الأساليب القذرة التي مارسها النظام المنهار، ففي تاجوراء على سبيل المثال شجع رجال الأمن المتظاهرين على الخروج، ووفروا لهم الحماية ورافقوهم مسافة لا بأس بها، وعندما وصلت الجماهير إلى مكان قريب من قاعدة “امعيتيقة” الجوية، أمطروهم من عدة جهات بوابل من القذائف، والرصاص، فقُتل من قتل، واعتقل من اعتقل. 

وحوصر المتظاهرون أثناء إحدى التظاهرات بين مجموعة من القناصة، تمركزت فوق إحدى الجسور (كوبري) وبين كتائب الأمن من الجهة المقابلة للجسر، وكانوا يطلقون النار على المتظاهرين الذين تجمعوا من سوق الجمعة وفشلوم وعرادة وتاجوراء، وحوصروا بعد ذلك بين نيران الكتائب والقناصة. 

كما تمركزت بعض ميليشيات القذافي وتمركز معها المرتزقة أمام أبواب المساجد، وأخذوا يطلقون النار على الناس عقب صلوات الجمعة لإرهابهم وتفريقهم ومنعهم من الوصول إلى الميادين الرئيسية، كميدان الجزائر وميدان الشهداء.

ولم يفت أعضاء اللجان الثورية فرصة الإسهام في هذه المجازر، فاقتحموا المستشفيات وغرف الطوارئ وقتلوا الجرحى وحمَلوا الجثث معهم للتخلص منها، حتى لا تكون دليلا على جرائمهم. كما كانت جثث الضحايا من المدنيين تُقطع وتُشوه وتُمزق وتُرمى في الشوارع، من أجل إرهاب الناس، حتى لا يشاركوا في الثورة. وأصبحت مشاهد الجثث المقطعة والمحروقة من المشاهد المألوفة، في بعض شوارع المدينة.

وكان من بين الضحايا أطفال ورضع، فلم ينج منهم طفل ولا فتاة ولا شاب ولا كهل ولا سيدة ولا مُسن ولا رضيع. وقد قُتل طفل، بلغ من العمر أحد عشر عاما في إحدى المظاهرات بين يدي والده، وأمام ناظريه إمعانًا في قهر الوالد. 

وعندما تركوا الجثث لفترة في الشوارع من أجل إرهاب الناس أخذوا بعد ذلك، يسحبون الجثث والأطراف وينقلونها في سيارت إلى أماكن مجهولة، للتخلص منها حرقاً أو إغراقاً أو دفناً، كونها تمثل دليلاً على جرائم النظام، الذي كان لا يتوقع أن يرى أحدٌ هذه الممارسات البشعة. لكن أغلب هذه الممارسات وُثقت صوتا وصورة، ورآها العالم بأجمعه تقريباً، وخاصة الرؤوس المهشمة وسحب الجثث والمقابر والإعدامات الجماعية والجثث المحروقة (مذبحة اليرموك مثلاً). 

كان الأهالي يُحصدون في شوارع تاجوراء برصاص الكتائب والمرتزقة، وشوهدت جثث الشهداء في شوارع تاجوراء، بالإضافة إلى القصف المتواصل بالرشاشات والمدافع المضادة للطائرات (14.5مم). 

ولن تنسى ليبيا، بل لن ينسى العالم منظر السيد الكريم (عبد الرزاق بالريش) الذي فقد زوجته بعد أن أصابوها بطلقة خارقة حارقة في شرفة بيتها، فقط لأنها أرادت أن تسحب ابنها أو ابنتها الصغيرة داخل البيت، خوفا من أن يصيبها الرصاص الذي كان ينهمر على المنطقة. وقد رأينا الرجل الذي فقد زوجته وقد غُطت ملابسه بدماء زوجته، صوتا وصورة، ولم يكتف المجرمون بكل ذلك، بل نبشوا القبور واختطفوا جثث الشهداء، أمام ذويهم.

وفي خضم هذه الأحداث والوقائع، أكدت روايات عديدة لشهود عيان، بأن طائرات من طراز “ليوشن” روسية الصنع تحمل مرتزقة هبطت في قاعدة امعيتيقة بطرابلس، أثناء الأيام الأولى للثورة. كما أكدت مصادر أخرى، أن طيارين ليبيين رفضوا حمْل مرتزِقةٍ من قاعدة امعيتيقة الجوية إلى بنغازي.

رواية شاهد عيان… 

طلبتُ من أحد الأصدقاء، الذين حط بهم الرحال على الحدود الليبية التونسية، نبذة عن أحداث الأيام الأولى للثورة، فأرسل إلي بهذه الفقرات التي سأوردها مع تعديلات طفيفة جداً، يقول الصديق:

استجابت منطقة ” فشلوم” للثورة سريعاً، وخرجت للتظاهر يوم 17 فبراير، وكانت “فشلوم” هي شرارة انطلاق المظاهرات في طرابلس وضواحيها، وخاصة في اليوم الثاني بداية من تاجوراء إلى عرادة فسوق الجمعة وزواية الدهمانى وميزران وأبو مشماشه وقرجى وحي الأندلس وغوط الشعال، وجنزور. 

واستطاعت مجموعات من شباب فشلوم والظهرة وزاوية الدهمانى وميدان الجزائر وشارع الصريم من الوصول إلى ميدان الشهداء، والاستيلاء عليه لمدة ساعة ونصف، لكن سرعان ما تدفقت سيارات محملة بالمسلحين، أخذت تقصف بعشوائية كل من وُجد فى الميدان، ووقعت معارك كر وفر في شارع الاستقلال، وميدان الجزائر، وسقط فى هذه الأحداث أكثر من خمسين شهيداً من غير الجرحى الذين اعتقلوا عند وصولهم إلى المستشفيات لتلقي الإسعافات، وتم نقلهم إلى أماكن مجهولة، كما تواتر خبر استخدامهم كدروع بشرية. 

ثم هدأت طرابلس لمدة يومين تقريباً، استانفت بعدها انتفاضتها يوم الجمعة، الموافق للخامس والعشرين من شهر فبراير، حيث انطلقت المظاهرات من معظم مساجد طرابلس بعد الصلاة، تنادي بسقوط النظام وكان هذا اليوم هو الأكثر دموية.

وخرجت تاجوراء وانضمت إليها جماهير عرادة وسوق الجمعة وحاصرتها قوات القمع، فى طريق 11 يونيو وأمعنت فى التقتيل وسقط الشهداء، كما سقط الكثير في الظهرة وميدان الجزائر وميزران وأبومشماشة والصريم وحي الأندلس، كما سقط الكثير من أبناء جنزور. 

ولم يستخدم النظام خراطيم المياه أو الشرطة أو العصي أو أدوات أخرى لتفريق المتظاهرين، بل استخدم المدافع الرشاشة التي كانت تحصد الناس عشوائياً، وكانت شدة دوي القذائف والرصاص لاتصدق. كما قام النظام بعدها بشن حمله إرهابية، تمثلت فى اعتقال المئات من الشباب الذين حُشروا عراة في حجرات صغيرة، وأرغموا على الهتاف بشعارات النظام المنهار، وكان ذلك مصحوبا بالضرب المتواصل الشديد (انتهى وصف الصديق الشاهد العيان). 

وهكذا، مرة أخرى، حوَّل الطاغوت طرابلس مدينة الحب والثقافة والأمان، ومدينة الحضارة والجمال والسلام، إلى ساحة تعج بأحذية الجند والمرتزقة والبنادق والخوذات والحراب، وتعج بالدبابات والبوابات والعصي والمدرعات، وشوهها بمقرات الأمن والمشانق والمخابرات والسجون والجثث والمقابر والدم وأقبية المعتقلات. 

لكن حتماً ستنتصر ليبيا، وحتما ستنتصر طرابلس على الطاغوت وزبانيته، ومليشياته وعملائه ومرتزقته، وما ذلك على الله ببعيد، فطرابلس كانت دائما تخرج من كل محنة في التاريخ، منتصرة، فإلى نصر قريب، باذن الله. والله ولي التوفيق.

ثم جاءت موجة الانقلابات ضد الربيع العربي وبذلت المستحيل جهدا ومالا وعسكرا وأسلحة ومرتزقة وإعلاما، بذلت المستحيل لإجهاض الثورة، وعرقلة بناء الدولة. 

وما خليفة ومرتزقته وتكالبهم هو ومن يؤيده إلا أحد الأمثلة على ذلك، لكنهم لا يجيدون قراءة التاريخ، فإرادة الشعوب أقوى من إرادة العملاء والمرتزقة الأغبياء. هُزموا – مرة أخرى -على أسوار طرابلس هزيمة ثانية مُذلة، هُزم مشروع العسكر حتى الآن مرتين.

لكننا لا يجب أن نقع في نفس الفخ الأول، عبر تبني قيم لم يفهمها أو يعيها أو يستوعبها أعداء ثورة 17 فبراير. لذلك لابد من الحزم العادل في مسيرتنا نحو بناء الدولة ودحر مشروع العسكر نهائيا.

لابد أن نستفيد من أخطاء الماضي التي مارسناها بعد الانتصار الأول في 2011م، عبر تجنب كل ما يعيق بناء الدولة المدنية الحقيقية، لا ظلم ولا قهر ولا فساد، ولا قمع ولا استبداد، ولكن مع عدل وفطنة وحزم. الانتصار الثاني على أعداء الناس وأعداء طموحاتهم وأحلامهم في بناء دولتهم وفي رد المظالم وتحقيق المصالحة وإحقاق الحق – الانتصار الثاني- يعتبر فرصة ذهبية من الله سبحانه وتعالى.

وأُولى الخطوات هي ضرورة القضاء نهائيا، وبصورة تامة، على المشروع المضاد، وليس فقط على رموزه (كخليفة مثلا). المشروع المضاد لابد أن يُنهى ويُدفن إلى الأبد، سلميا أو سياسيا أو تسوية أو حتى عسكريا. ولن تقوم للوطن قائمة طالما أننا لم نلقن الانقلابيين – أعداء الوطن – درسا كاملا متكاملا. أنصاف الثورات وأنصاف الحلول وأنصاف الدروس والعاطفة في غير محلها مع من لا عاطفة له، ومع من لا يرقب في مؤمن إلا ولاذمة، هو اجتهاد خاطئ مهما كانت النوايا.

وسنبني هذه الدولة باذن الله من أجل الشهداء ومن أجل من فقدوا أطرافهم دفاعا عن الوطن، ومن أجل أرامل ويتامى و آباء وأمهات الشهداء، بل من أجل أحفادنا ومن أجل أجدادنا الذين تركوا لنا دولة مدنية راقية عقب عقود من الجهاد ضد أشد استعمار قسوة وعنفا وتصلفا ودموية وبشاعة. والله ولي التوفيق. 

فتحي الفاضلي – طرابلس- 20 أغسطس- 2020م

نُشرت يوم السبت 21 مايو 2011م، يعنوان طرابلس والطاغوت… شيء من أحزان طرابلس، ونُشرت في أغلب الصحف التي كانت تصدر بعد ثورة 17 فبراير في بنغازي، ونُشرت أيضاً على صفحات النت الليبية. واختصرت ككلمة ألقيت في ميدان الشهداء بمناسبة الذكرى التاسعة لتحرير طرابلس في 20 أغسطس 2020م مع إضافات حول الانتصار الثاني.

مشاركة