أمي… كانت هنا

تحدثونني عن نساء عظيمات، أحدثكم عن أمي.

بعد يوم متعب قضته في الرعي والمرح واللعب مع رفيقاتها في القرية، وقبيل استسلامها للنوم ساعة الغروب، لاحظت الفتاة البالغة من العمر خمسة عشر ربيعا كثرة الوافدين من أقارب وضيوف وآخرين، دون أن تدري ما المناسبة، وعندما استيقظت صباحا قدموا لها شيئاً من طعام أعدوه لضيوف الليلة الماضية بمناسبة خطوبتها، تَمَّ ذلك دون أن تدري ودون أن يخبرها أحد.

كانت نائمة بينما كانت فعاليات خطبتها على قدم وساق، لم تكن الفتاة على علم بالحدث الذي سيغير مجرى حياتها إلى الأبد، نامت واستيقظت لتعلم أنّ خطوبتها قد تمت، ولم تُظهر أية ردة فعل إيجابية كانت أو سلبية، بل كانت مشاعرها أقرب إلى الاستسلام والبرود واللامبالاة والقبول، وكأنه أمر روتيني متوقع يعتمد على التوقيت لا أكثر ولا أقل، ولا يحق لها أن تقبل أو ترفض، فقد تم الأمر.

لم تعد السيدة في عرف قريتها طفلة، فيكفي أنها تعلمت كيف تعد شيئاً من الطعام، معيار عملي واحد يكفي لإقرار جاهزيتها للزواج، إجادة الطبخ – بصرف النظر عن عمرها – كان دليل أهليتها واستعدادها للزواج، ومدخلاً أيضاً لتصنيفها ضمن عالم الكبار، وهكذا سار الأمر.

ودّعتِ السيدة امباركة عالم الطفولة وخطت أولى خطواتها نحو عالم الكبار، وبدأت مشوارها نحو عالم المسؤوليات والمهام والواجبات، عالم الكد والكدح والعمل والجد والعطاء، عالم مغلف بخليط من ظلم وهموم وأتراح وشقاء وأحزان، عالم لم يخل أيضا من زهاء وسعادة وأفراح.

ودّعت الفتاة عالماً ممتعاً مرحاً رائعاً، ودّعت عالم البراءة، عالم استطاعت هي ورفيقاتها أن تحول واجباته ومهامه وثقل مسؤولياته إلى مرح يومي تقريبا؛ استجلاب الماء من بئر القرية، رعي الغنم، جمع شيء من الثمار، سقي بعض الحيوانات، المشاركة في الحصاد، المشاركة في جني الزيتون، وغيرها من مهام القرى والمزارع والأرياف، كانت فتيات القرية يشتغلن أغلب هذه المناسبات ويحولنها إلى مناسبات مليئة باللعب والفرح والسعادة والسرور والمرح.

بعد أشهر معدودات من زواج السيدة امباركة، فاض وادي درنة، فجرف السيل عشرات البيوت ومات عدد لا بأس به من الناس (من 30 إلى 40 ضحية تقريبا بين رجال ونساء وأطفال)، جرفهم السيل وهدم بيوتهم؛ خاصة البيوت الهشة التي بُنيت على ضفاف الوادي، كارثة شهيرة يتذكرها أهالي مدينة درنة جيدا، بل ويتذكرها أغلب أهالي ليبيا.

قرر زوجها أثر ذلك السفر إلى مدينة درنة فورا، ليطمئن على مصير بعض أفراد أسرته الذين غادروا القرية منذ زمن واختاروا أن يعيشوا في مدينة درنة، وطلب من زوجته أن ترافقه، لكن والدتها ترجته أن يتركها معها وأن يسافر وحده، فهي ما زالت في نظرها طفلة، كما خافت عليها من مصائب ومشاكل وتبعات الغربة، وأقنعته بأنها في الحفظ والصون بين أهلها وأناسها وجيرانها، كانت علاقة الزوج بوالدة زوجته علاقة جيدة تسودها المودة والمحبة والاحترام، فاستجاب السيد لطلبها وغادر وحده.

مرضت والدة السيدة امباركة بعد أيام من مغادرة السيد علي، زوج ابنتها، وتوفت متأثرة بمرضها الذي لم يمهلها طويلا، وهكذا تجلت أقدار الله ـ سبحانه وتعالى ـ بإعداد قائمة رحيل الأحبة المقربين من السيدة امباركة، وقرر والدها أثر وفاة زوجته، السفر إلى مدينة درنة أيضا، وقرر بالطبع أن يصطحب ابنته معه؛ لتلتحق بزوجها من جهة؛ ولينظم هو إلى أقربائه في المدينة من جهة أخرى، علهم يمدون له يد العون في البحث عن عمل، كما رافقهما عمها أيضا، والذي باع أحد أنعامه ليغطي بثمنه تكاليف الرحلة من قرية الأفاضل إلى مدينة درنة.

وهكذا ودّعت الفتاة امباركة مسقط رأسها، القرية التي شهدت طفولتها، وفارقت بالتالي صندوق ذكرياتها، فارقت رفيقاتها وأهلها ومعارفها وقبيلتها وجيرانها، تركت قريتها ورحلت لتخوض مع زوجها (السيد علي) جولات شرسة من الصراع من أجل لقمة العيش.

وفي الطريق إلى مدينة درنة، هي ووالدها وعمها، تم إيقافهم في مدينة الخمس، ومنعهم من السفر إلى أن يتلقوا تطعيما ما (لا أدري أي تطعيم، وأي لقاح، وأي مرض، أو وباء كان منتشرا في ذلك الوقت – أتحدث هنا عن منتصف الأربعينيات تقريباـ).

بقوا في مدينة الخمس أسبوعا ضيوفا على إحدى قريباتهم، انتهوا خلاله من التطعيم، ثم واصلوا السفر إلى مدينة درنة مستخدمين شاحنة كان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم (كوريرا– ربما تعني الساعي أو الناقلة بالإيطالية ـ) وهي سيارة تنقل البضائع والبشر في نفس الوقت، ومن كافة الأصناف والأعمار والأحجام.

الكوريرا عبارة عن سيارات شحن عتيقة ضخمة نسبيا في ذلك الوقت، يتم تشغيل محركها يدوياً من خارج الشاحنة من الأمام، باستخدام أداة معدنية كبيرة (كنا نسميها مفتاح، وهي ليست المفتاح المتعارف عليه) بل أداة تشبه إلى حد ما الأداة التي تُستخدم حاليا في إزالة البراغي التي تثبت الإطارات، والتي تُستخدم عند الحاجة إلى تغيير إطارات السيارة، ولتشغيل محرك الـ “كوريرا”، يقوم السائق بإدخال نهاية “المفتاح” في فتحة متصلة بالمحرك، ثم يقوم بلفه يدويا عدة مرات إلى أن يتم تشغيل المحرك.

تَمَّ في مصراتة منعهم ـ أيضا – من مواصلة السفر، ولنفس السبب: التطعي؛ وعلى الرغم مما أبدوه من احتجاج بسبب إعادة نفس التطعيم، إلا أنّ المسؤولين في ذلك الموقف وفي ذلك الوقت أصروا على ذلك، احتاج الأمر أسبوعا آخر ليتم تطعيمهم ويسمح لهم بمغادرة مدينة مصراتة، كان ذلك الأسبوع مكلفا جدا، خاصة وقد نفذ المبلغ الذي كان بحوزة عمها، ناهيك من أن والدها كان لا يملك درهما واحدا. كان الفقر حالة عامة تقريبا في ذلك الزمن، الكل كان يعاني ماديا، كما سيطرت المجاعة والجفاف والأمراض على المشهد، حتى الحيوانات نفقت من شدة العطش.

عند نفاذ ما كان مع عمها من دريهمات، ناولت السيدة امباركة والدها أساور (غوايش) من فجرة، وكذلك قلادة من فجرة أيضا (أسمتها تصغيرا: أقليدة). القلادة كانت جزءا من مهرها، والأساور هدية من والدتها التي أوصت أثناء مرضها بأنّ أساورها من حق ابنتها، بل وأكدت ذلك بلهجة صارمة حيث قالت: “الله لا تسامح من يقربهن؛ راهن لبنيتي“.

وهكذا اضطرت السيدة امباركة أن تناول أساورها (مهرها) وقلادتها (هدية عزيزة عليها من أمها) لوالدها ليبيعهما من أجل تغطية تكاليف باقي الرحلة، فعلت ذلك على الرغم من رمزية تلك الأساور (الذكرى الأخيرة والوحيدة من أمها)، وبذلك بدأ مشوار الكرم والجود والعطاء من قبل السيدة امباركة. الكرم والجود والعطاء في تلك السن المبكرة، ومما تُحب (مهرها وهدية أمها) وليس من فضلات ما عندها، ووصل الثلاثة إلى مدينة بنغازي حيث كان في استقبالهم بعض الأقرباء الذين استضافوهم لأيام، ثم واصلوا الرحلة إلى مدينة درنة حيث التم شملها مع زوجها.

وفي مدينة درنة بدأت السيدة امباركة رحلة الكد والكفاح والكدح، مصحوبة – تلك الرحلة – بحالة نادرة من عدم الاستقرار، فما أن تستقر أسابيع تُعَدُّ على الأصابع أحيانا، حتى تنتقل إلى سكن آخر، بعض تلك المساكن أفضل من سابقاتها، وبعضها أسوأ مما يتخيل البشر، كان أغلبها سكن مؤقت يسافر أصحابه خارج مدينة درنة لفترات محدودة في الصيف على سبيل المثال، فيسمحوا للسيد علي وأسرته بالسكن المؤقت في بيتهم ريثما يعودون، كانت بعض تلك البيوت مجرد أكواخ من صفيح (يطلق عليه اسم حلاق في بنغازي، أو برّاكة في أغلب مناطق ليبيا)، بل كان بعضها كوخ غير مستقل، ملحق بمرآب (جراج) بيت من البيوت، وبعضها بيوت شبه محطمة وبالإيجار.

تنقلت السيدة امباركة من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، تنقلت بين ما لا يقل عن عشرة مساكن في زمن قصير وقصير جداً، ولنا أن نتخيل ما يترتب على كل نقلة من ترتيب ومعاناة وتنظيف وإرهاق وأحمال، الاستقرار كان معدوما إذا، وكانت السيدة امباركة تقابل كل ذلك بأمل وصبر ورضا.

وهكذا، لم تستقر السيدة في مكان واحد في أغلب فترات حياتها، كانت ترحل مع زوجها كلما وأينما رحل، انتقلت معه من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة، ومن منطقة إلى منطقة أخرى، سكنت بيوتا يطلق على أغلبها جزافا لفظة “بيت”، سكنت في فترات في بيت واحد مع أكثر من أسرة، كانت ما أن تصنع ذكريات وما أن تُكون أصدقاء ومعارف وجيران، وتحقق شيئا من الاستقرار؛ حتى تشد الرحال مع زوجها إلى قرية أخرى أو مدينة أخرى، أو بقعة أخرى، أو شارع آخر، فتقفد تواصلها أو يقل تواصلها مع الأصدقاء والمعارف والجيران.

وفي مدينة درنة أمتهن زوجها السيد علي ألف مهنة ومهنة، كان رجلا عصاميا ذو همة خيالية عالية مقارنة بصحته ووزنه وهامته، كان نحيفا جدا؛ لكنه كان كالمحرك أو “الدينمو”، أينما يحل يملأ المكان حركة وعملا وتدافعا ونشاطا، كان على الرغم من صفاته الظاهرية، يحمل همة عالية ونفسا تواقة وروحا لا تعرف اليأس، كان أينما يحل يحرك الساكن إيجابيا.

امتهن السيد علي كل ما تجود به المدينة من مهن (بناء، طلاء، تصليح، بائع متجول، أعمال حرة، حفر آبار، خدمات، تجارة، نقل… إلخ)، مهن لا أول لها ولا آخر، من أجل لقمة العيش له ولأمه وزوجته وإخوته، مهن في زمن تفشى فيه الفقر، مهن جسدت رحلة كفاح طويلة، رحلة كان الصبر وقودها الوحيد.

لم تتردد أو تتهاون أو تتوانى السيدة امباركة على مساندة زوجها في كافة المهن التي امتهنها بدون استثناء، بصرف النظر عن طبيعة المهنة، من أبسطها إلى أعقدها، وما أكثرها، مهن يتطلب أغلبها إعدادا وتجهيزا وتسوية وترتيبا داخل البيت، مهن تتطلب أحيانا إعداد مأكولات مختلفة بكميات هائلة، وغيرها يتطلب نقل أثقال، وأخرى تتطلب القيام بأكوام من الغسيل بالأيدي، فلا وجود للغسالة الكهربائية، وغيرها يتطلب تخزينا وفرزا وعناية وتنظيفا، مهام كانت أقرب إلى الأعمال الشاقة منها إلى أي شيء آخر، كانت السيدة تقوم بكل ذلك بلا كلل ولا تذمر ولا تململ ولا راحة ولا ملل.

كانت لزوجها خير عون وسند ورفيق، كانت الذراع الأيمن له، لم تعارضه يوما واحدا، كانت تفعل ذلك بكل رحابة صدر وصبر ورضا، تبذل معه من الجهد ما لا يطيقه البشر، لقد وقفت ودعمت وساندت زوجها وهو في قمة الفقر، ووقفت ودعمت وساندت زوجها وهو في قمة سعته، لم تغيرها الأحوال المادية، ضيقا كانت أو سعة.

ومع مرور الزمن تحسنت أحوال السيد علي المادية بفضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ ثم نتيجة السعي الحلال من أجل لقمة العيش، ونتيجة ما مر به من مشقة وكد وكفاح، وببركة السيدة امباركة أيضا، انتعشت تجارته وأنشطته وأعماله، ثم تعرضت العائلة لانتكاسة مادية جديدة، عانى منها أغلب الليبيين، ثم بارك الله في الرزق مرة أخرى، وتحسن الوضع المادي للعائلة.

وكلما تحسنت الأحوال المادية، تحسن معها مستوى المعيشة من جميع جوانبها: سكنا وعيشة وتجارة. ومع هذا التحسن في كل شيء تقريبا، لم يتغير السيد علي بل كان يزداد تواضعا، واهتماما بأقربائه وأبناء عمومته الذين عانوا مما عانى منه من قسوة الحياة، كان خير مثال للوفاء والإحساس بآلام وأوضاع الآخرين، لم ينس أحدا من أقربائه أو جيرانه أو أصدقائه ممن قدموا له يد العون في أيام الشدة.

لم ينس أيّا منهم من الدعم السخي ـ بما جاد به الله سبحانه وتعالى – خاصة في المناسبات، والأعياد، وشهر رمضان الكريم، ومواسم الحج، ومواسم ومواقيت إخراج الزكاة وغيرها، لم ينسهم من هدايا ومعونات وصدقات وقروض وزكاة لكل من يستحق ذلك، سواء كانوا في بنغازي أو الأفاضل أو طرابلس، كان يرسل ما تجود به نفسه إلى أهل قريته، وكان يشارك ويوظف ويدعم أقرباءه بدون تحفظ.

كان يفعل ذلك دون مَنٍّ أو تكبر أو جميل، كان يحس بمشاعر المحتاج والفقير والمسكين، كان يحس بذلك بفطرة وتجربة وفراسة من ذاق قسوة الحياة، يفعل ذلك بينما يغمره الإحساس بأن ذلك حق عليه من حقوقهم، كان مبدعا في فنون جبر الخواطر وحفظ ماء وجه الآخرين، ربما لأنه مر بما كانوا يمرون به من معاناة وقسوة وضنك العيش أحيانا.

لم تتغير السيدة امباركة أيضا بعد أن انتقلت من فقر مدقع إلى غناء نسبي ملموس، لم تتغير وهي في أفضل حالاتها المادية وفي كافة جوانب الحياة، بل استمرت – كما هي – على سجيتها، كريمة ومرحة ومتواضعة وصبورة، ولم تتوقف في نفس الوقت عن أداء أصعب المهام وعن تقديم كامل الدعم لزوجها.

لم تنحصر مهام ومسؤوليات وتكاليف وواجبات السيدة امباركة في القيام بما تتطلبه مهن وتجارة وأعمال زوجها، فقد رزقها الله ـ سبحانه وتعالى ـ خمسة عشر من الأبناء والبنات، فقدت منهم ثلاثة لأسباب مختلفة وأزمنة مختلفة، بعضهم قبل الولادة، بقي منهم اثنى عشر من الأبناء والبنات، ولدوا في أكثر من مدينة (درنة وبنغازي وطرابلس)، بعضهم ولدوا في بيوت، وبعضهم ولدوا في مستشفى، أغلبهم ولدوا في أزمنة متقاربة، ما يعني كم هائل ومرعب من المهام والواجبات والمسؤوليات تجاه الأطفال الصغار المتقاربين سنا، والعاجزين عن الاعتماد على أنفسهم، كل ذلك كما نوهنا بجانب المهام المنزلية والمهام الأخرى ذات الصلة بمهن السيد علي.

ناهيك من مهام التربية والرعاية والتأديب، والحرص والخوف والقلق على فلذات أكبادها (تأخرهم، سلامتهم، طعامهم، صحتهم، دراستهم… إلخ)، إعداد وجبات الإفطار قبل أن يتفرق الجمع كل إلى مدرسته بمختلف المراحل (ابتدائي، إعدادي، ثانوي، جامعة)، ثم إعداد وجبة الغذاء، ثم العشاء لهذا الجيش.

بالإضافة إلى مهام النظافة، نظافة الملابس لكافة أفراد العائلة، تنظيف البيت (الحمامات والغرف والجدران والمطبخ والصحون والأواني، بما في ذلك جلي (حك) الحلل (الطناجر) والقدور أحيانا. ناهيك من تنظيف الفرش والبطاطين والسجاد والملايات، بالإضافة إلى كنس الأرضية وإزالة الأتربة وجمع القمامة، ثم غسل الأرضية بالماء (تسييق)، تتلقي السيدة امباركة بالتأكيد العون من بناتها وأبنائها في أغلب واجباتها؛ لكنها تظل هي من يحترق حتى تطمئن بنفسها – عمليا ومعنويا- بأن جميع المهام والواجبات قد تم إنجازها على أكمل وجه.

تتضاعف المهام السابقة في المناسبات السعيدة والحزينة (العزائم، الأعياد، شهر رمضان، الخطبة، الفضّانيات، الأعراس، الزيارات، الأفراح بصفة عامة، حالات المرض، السفر، المآتم… إلخ)، تتضاعف المهام السابقة أضعافا مضاعفة، ويتضاعف معها الجهد والتوتر والإرهاق والقلق، كانت هذه المهام تتم تحت بند القيام بالواجبات الاجتماعية.

ولم ينته الأمر إلى هذا الحد، فبجانب ما سبق، هناك قائمة أخرى من المهام والواجبات والتكاليف منها استقبال الضيوف من كل حدب ونوع وصوب (أقرباء، رفقاء وأصدقاء ومعارف، وأقرباء زوجها، أصدقاء أبنائها، صديقات بناتها، زملاء دراسة، جيران… إلخ).

كان الضيوف – كعادات مجتمعنا – يتوافدون بصورة فجائية بدون سابق ترتيب أو إنذار، وفي كافة الأوقات (في أي وقت من الصباح إلى المساء)، بل بعضهم كان يطرق الباب في ساعات متأخرة من الليل، فكانت السيدة امباركة تقوم بحق الضيافة (بما يجود به الله) على أكمل وجه، وبكل مودة وأريحية وسرور، لم تتذمر من توقيت الزيارات أو من عدد الضيوف، بل بالعكس كانت تدعو الله أن تقوم بالواجب تجاه ضيوفها، وألا تُحرج أمامهم، كان ذلك مبلغ قلقها.

وحتى في أيام الشدة، وشح الموارد المادية، كانت كلما جهزت شيئا من طعام، ترسل شيء منه إلى العمال والأحباب والجيران والأقرباء، كانت تستخدم في ذلك ما نسميه بــ ” الشيال”، وهو عبارة عن أواني، أو أوعية صغيرة من الألمنيوم في الغالب، مترابطة مع بعضها في طبقات (ثلاث طبقات في الغالب) ومتماسكة طوليا برابط معدني من الجانبين ينتهي بممسك أو يد لحمله، فيُعبأ الوعاء العلوي على سبيل المثال بـ”الشربة”، والأوسط بـ “البراك أو الضولمة”، وفي الجزء الأسفل بالوجبة الرئيسة (مكرونة أو رز… إلخ). كنت أحمل هذا الشيال (منذ طفولتي) من مكان إلى مكان، وخاصة في شهر رمضان، لم تتوقف الوالدة الكريمة عن مشاركة طعامها مع جيرانها – في السراء والضراء – في أوقات الشدة وفي أوقات الرخاء، ومع الجميع، مع العاملين مع الوالد والأقرباء ومع الضيوف والجيران وأصدقاء وصديقات وزملاء أبنائها وبناتها، لم تتوقف عن ذلك لعشرات السنين في درنة وبنغازي وطرابلس.

ولم تنته قائمة المهام والمسؤوليات بعد، فقد كانت بالإضافة إلى كل ما سبق، تستيقظ ـ في الشتاء القارس – من عميق نومها لتمر في ساعات متأخرة من الليل (في أواخر الليل أحيانا)، تتفقد فلذات أكبادها، فكانت تغطي من يحتاج إلى ذلك، وتضيف إلى الآخر بطانية أو غطاء، وتعدل من رقبة الآخر، وتزود الثالث بمخدة، وتتأكد من أن الشبابيك موصدة، وأنّ الأضواء مطفأة أو خافتة، وتتأكد – بصفة عامة – أن لا شيء يمكن أن يلحق الضرر بذريتها، وكانت تستيقظ في بعض الليالي أكثر من مرة؛ لتقوم بجولاتها التفقدية الليلية، تفعل ذلك على الرغم من أنها آخر من ينام، وأول من يستيقظ صباحا استعدادا ليوم طويل وطويل جدا على أم بلغت رعيتها اثنى عشر روحا، بالإضافة إلى زوجها وأفراد آخرين من أقرباء زوجها.

جانب آخر جدير بالتدبر والتذكر والتأمل، فعلى الرغم من قسوة الحياة في فترات عدة من حياتها، وعلى الرغم من أميتها، فهي لا تقرأ ولا تكتب، إلا أنها استطاعت بحزمها ورعايتها ودفعها وتشجيعها أن تُخرج للوطن عددا من أبنائها وبناتها من الفنيين وحملة الشهادات الجامعية في كافة التخصصات (المحاماة، التعليم، الطاقة، الزراعة، الحاسوب… وغيرها)، خدم كل منهم الوطن لسنوات عدة في أكثر من مؤسسة وهيئة ووزارة.

وحتى الذين لم يتخرجوا من الجامعات من أبنائها وبناتها حملوا وعرفوا بالأمانة والإخلاص في العمل، لقد استطاعت أن تربي أمهات عفيفات صادقات حريصات على فلذات أكبادهن، كحرصها هي على فلذات أكبادها، لقد علّمت أولادها أنّ فلذات أكبادهم رعية وأمانة ومسؤولية.

ومن صفاتها الشخصية: أنها كانت تتمتع بقلب لا يسعني إلا أن أصفه بأنه أوسع من هذا العالم، صبر عجيب على الناس، خاصة تجاه من يؤذيها، لقد كنا نغضب ونحتد إذا تعرضت لكلمة أو همزة أو لمزة لا تستحقها، فكانت تنهرنا بشدة وتأتي لمن أذاها بألف عذر وعذر إلى أن تطفئ غضبنا أو عتابنا على من يؤذيها.

وكانت ذات صبر على الوقائع والخطب والأحداث، مع صبر على الفقر المدقع في بعض مراحل حياتها كما ذكرنا، كانت تتميز بعزة النفس والعزيمة والحزم، كانت بجانب ذلك اجتماعية محبوبة مرحة. امتزجت في شخصيتها عزة النفس والعزيمة والحزم، مع روح الفكاهة والنكتة والدعابة، كانت حاضرة النكتة، سريعة البديهة، صاحبة “تلقيحات” إيجابية مرحة بريئة، تضيف على المشهد أجواء من الود والمودة والفرح.

كانت تتمتع بحب جيرانها في قريتها الأفاضل، وجيرانها في مدينة درنة (في أكثر من حي وسكن وشارع وأينما حلت)، وفي بنغازي (في الصابري)، وطرابلس (في المدينة وفي زاوية الدهماني والنوفليين) وأينما حلت، سر ذلك أنها كانت تحب الخير للجميع، وتشاركهم أفراحهم وأحزانهم، بدون تصنع، فتشعر الناس وبكل صدق، بأن آلامهم آلامها، وأحزانهم أحزانها، وأفراحهم ونجاحاتهم جزء من أفراحها ونجاحاتها، وكان أغلبية من تعرفهم ينادونها بـ”بريكة” تصغيرا لــ” امباركة“.

ومن قدر الله للسيدة بريكة أن فقدت قائمة طويلة من الأحباب المقربين، خاصة المقربين من الدرجة الأولى، لقد عاصرت العديد منهم بحكم سنها التي جاوزت التسعين عاما، قائمة من الأحبة ضمت كوكبة من أعز الناس على قلبها، بداية من فقدان أمها، ثم فقدت جدها، ثم ثلاثة من فلذات كبدها في سن الطفولة، ثم أمها، ثم أبيها، ثم أخيها الوحيد، ثم زوجها رفيق عمرها، ثم خالتها الوحيدة، ثم ابنها، وفقدت غيرهم من ذكور وإناث مقربين إلى قلبها وعقلها ووجدانها.

كانت كلما توفي أحدهم تدخل في دورة من الهم والغم والحزن، كانت تتفاعل مع فقدان الأحبة كما يتفاعل البشر من ذوي الفطرة السليمة مع مثل تلك الوقائع والمصائب والأحداث، حزن وبكاء ودعاء. وكانت كل واقعة وفاة تنال منها ما تنال، جسديا ومعنويا ونفسيا ووجدانيا.

فعندما توفي جدها – على سبيل المثال – شكل موته صدمة كبيرة، فقد كانت متعلقة به أكثر مما كانت متعلقة بأمها وأبيها، فقد غمرها بالحب والحماية والعطف والرعاية، كانت طفلته المدللة، كانت أميرة بل ملكة معه، كانت تحس بالأمن والسعادة والأمان في حضرته، كانت تحس معه بأنها محمية ومحروسة وقوية، وعندما توفي جدها انهارت قلعة أخرى من قلاعها بعد أمها، حزنت حزنا عميقا بعد أن فقدت ركنا شديدا كانت تأوي إليه، كل ذلك على الرغم من أن والديها كانا يغمرانها بالحب والعطف والحنان، وكانا يوفران لها ما تحتاج إليه، وبقدر ما يجود به الله سبحانه وتعالى في ذلك الزمان.

كانت تتجاوز مع الزمن فقدان أحبابها، وتحتسب ذلك لله، وكانت تبكي وتذرف الدموع من حين لآخر كلما تذكرتهم، ثم تواصل مسيرة حياتها، وتنغمس في صلواتها واهتمامها بأسرتها وباقي الواجبات.

لكن الواقعة التي هزمت أو كادت أن تهزم هذه الروح الصلبة العنيدة، والجسم المقاوم الصابر على البلاء، هي وفاة فلذة كبدها “نوري”؛ فنوري وعلى مدار السنة، ولسنوات طوال، بعد إصابة والدته بالسكري، كان صيفا وخريفا وربيعا وشتاء، يستيقظ فيؤدي صلاة الفجر، وبعد الانتهاء من الصلاة، يجهز بنفسه حقنة الأنسولين، ويجهز بنفسه أيضأ وجبة الإفطار للوالدة الكريمة، يصعد بعد ذلك إلى بيت العيلة (حوش العيلة) حيث تقطن الوالدة فيعطيها الحقنة ويفطرها، ويقوم على خدمتها، حتى تنتهي من إفطارها، يتبادل معها أثناء ذلك حديثا يدخل به دقائق من السرور على قلبها، ثم يغادر إلى عمله، كل ذلك والباقون بما فيهم أنا، يغطون في النوم.

نوري يفعل ذلك، وكما ذكرنا يوميا، نعم يوميا، ولسنوات عدة، دون كلل أو تذمر أو ملل، بل وبكل جد وصبر وإخلاص وإحساس بالمسؤولية وإتقان، لا يمنعه من ذلك، إلا المرض، بل إذا غاب، أو تأخر يوما، تدرك الوالدة الكريمة، أن فلذة كبدها يعاني من المرض الذي لازمه لمدة طويلة، والذي كان يهاجمه من حين إلى آخر.

جميعنا إخوة وأخوات كنا نتنافس ونتسابق، كل بقدر جهده ووقته، على خدمة الوالدة الكريمة، والفوز برضاها، لم يقصر أحد؛ لكن من الواضح جدا أن نوري انتصر علينا جميعا، وبلغ بره بوالدته مبلغا عظيما، هُزمنا أمامه جميعا، انتصر علينا نوري ببره لوالدته، ومحافظته على صلة الرحم، خاصة إذا علمنا أن الوالدة الكريمة قد قاربت – كما ذكرنا – التسعين عاما.

توفي نوري عن عمر يناهز الخامسة والخمسين، وترك أرملة وثلاثة أطفال وأم ثكلى، أثقلت بالابتلاءات، وأرجو من الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يكون ذلك من باب “إذا أحب الله عبدا ابتلاه“.

لقد كان نوري ممن جاهدوا في والديهم “… ففيهما فجاهد” كما قال الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصحابي الذي استأذن الرسول الكريم في الجهاد، فسأله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “… أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد”. ولقد جاهد نوري أيما جهاد!.

وفاة نوري كانت نقطة تحول كبيرة في حياة السيدة، لقد قاومت وصبرت وتحملت ما لا يطاق، وفاة نوري كانت واقعة يبدو أنها جاءت في عمر وحالة ووضع لم تقو على تحملها.

لقد أخذت مقاومتها وشدة تحملها تنهار شيئا فشيئا بعد فقد أمها وجدها ووالدها وزوجها وأخيها الوحيد وخالتها وفلذة كبدها نوري وغيرهم من الأحباب والأقرباء والأصحاب، ومع فقدان الأحبة، عوضها الله ـ سبحانه وتعالى ـ بـأكثر من خمسين حفيدا وحفيدة، وبما يقاربهم من أبناء وبنات الأحفاد، بجانب أولادها بالطبع، فقد تزوج الاثنى عشر ابن وابنة، بل وأصبح بينهم أكثر من جد، حدث ذلك وهي على قيد الحياة، فقد عاصرت أولادها منذ الولادة حتى أصبح بعضهم جدودا وجدات.

وعندما يتجمع أولادها وأسرهم وأحفادها وأولاد أحفادها في بيت العيلة، في المواسم والأعياد والمناسبات، بل وبدون مناسبة أحيانا أخرى، كان المكان يتحول إلى مهرجان: ضحك ولعب وغناء ومرح ونقاش وأناشيد وسمر وجدال ومزاح ونكات واحتفالات ببعض المناسبات (انتهاء امتحانات، أو نجاح، أو أعياد ميلاد، أو ذكريات سنوية، أو زيارة أقارب من مدن وقرى أخرى… إلخ)، مع تزاحم وتنافس وتسارع الجميع على خدمة السيدة امباركة.

وصحيا، أصيبت السيدة امباركة بالسكري كما نوهنا، فكان عليها أن تتلقى حقن الأنسولين يوميا وفي كل صباح، ثم فقدت بصرها، ولم تفقد بصيرتها، ثم وقعت في الحمام أثناء وضوئها استعدادا للصلاة، فكسرت رجلها، وقد بلغت في ذلك الوقت من العمر مبلغا، وانتهى الأمر بأن وضع داخل رجلها قطعة معدنية، صاحبتها إلى مماتها، وعانت منها ما عانت من آلام وضيق وأهوال.

كل ذلك بجانب ما يعاني منه كبار السن عادة من آلام الظهر وهشاشة العظام وضعف السمع وآلام عدة أخرى، لقد هاجمتها الآلام والأمراض والأسقام من كل حدب وصوب (السكري، فقدان البصر، آلام الظهر، آلام الرجل، إغماء من حين إلى آخر، هشاشة العظام، حساسية، ثقل السمع، صداع، ضعف عام… إلخ)، أخذت جدران دفاعاتها تنهار جدارا بعد جدار؛ لكن إصرارها وصبرها وعزيمتها وأملها لم تتغير قيد أنملة، الجسد الصابر على البلاء أخذ في الانهيار؛ لكن الروح استمرت محتفظة بقوتها كاملة.

وانتهى بها الأمر في أيامها الأخيرة بأن لازمت سريرها، لا تتحرك منه، كان أبناؤها وبناتها يتسابقون على خدمتها، فيحملونها من سريرها ويضعونها على كرسي متحرك كلما احتاجت إلى دورة المياه، وكانت لفترة طويلة، تقف على قدميها دعما لمن يحملها عند إنزالها من السرير، ثم فجأة لم تعد قادرة حتى على ذلك، فكانت تترك جسدها كقطعة ساكنة جامدة واحدة بين أيدي من يحاول وضعها على الكرسي المتحرك، ما يدل على أنها فقدت السيطرة أو الشعور أو الإحساس برجليها، ثم فقدت القدرة حتى على الجلوس، ثم عجزت في الفترة الأخيرة حتى عن التقلب من جنب إلى آخر، عجزت أن تفعل ذلك بنفسها، فكانت تطلب بين الفينة والأخرى أن يغيروها (يقلبوها) من جنب إلى آخر، ثم أصيبت قدميها وإحدى يديها بانتفاخ، وكانت في أواخر أيامها، وفي أسوأ حالات ضعفها تقبض بإحدى يديها وبقوة على أنبوب حديدي ملحق بالسرير من الجنب لمنع سقوط النائم، في حركة لم أجد لها تفسيرا سوى إحساسها بأنها معلقة في الهواء وتخاف أن تسقط، فعليها بالتالي التشبت بشيء ما، حتى لا تقع.

كانت صلتها بالله – على الرغم من كل هذه المعاناة – أغرب من الخيال، خاصة في السنوات التي داهمتها بدون شفقة ولا رحمة كل ما ذكرناه من أمراض وأسقام وابتلآت، كانت لا تتحدث (طوال اليوم أحيانا) إلا لتسائل عن دخول وقت الصلاة أو عن الأذان: هل أذن المغرب؟ كم مازال على العشاء؟ خش العصر وإلا مازال؟ شيع الظهر وإلا مازال؟ يوما كاملا أحيانا لا تنطق إلا بهذه الكلمات القليلة في حروفها، العظيمة في مغازيها.

وكانت تختم صلواتها بدعاء مطول جدا، أغلبه باللهجة الليبية، أو بلغة عربية مكسرة، لكن بصوت تقشعر منه جلود الذين آمنوا، لا يستطيع أحد أن يسمع دعاءها دون أن يذرف الدموع رحمة وشفقة ورجاء، بل كنت أحس أن الجدران تكاد أن تبكي معها أثناء دعائها.

كان دعاء في جوف الليل، يمزق القلب وينفذ للفؤاد والوجدان والروح، كان الحزن يخيم على المكان بأكمله عقب الانتهاء من الدعاء، كانت تدعو دائما وبقوة واستمرار على الظالمين، أينما كانوا، فقد كانت تتألم لمظالم الآخرين وآلامهم، من تعرف منهم ومن لا تعرف.

كان من ضمن ما تدعو به في جوف الليل دعوة لا يطيق سماعها من في قلبه ذرة من حنية وعطف وإنسانية، كانت خليطا من دعوة ورجاء وتوسل ونداء يكاد أن تهتز لها جدران الغرفة، لقد أخذت لسنوات تدعو أو تترجي أو تنادي بلهجة ليبية حزينة وحزينة جدا مشيرة إلى ابنها نوري قائلة: وليدي يا ربي… وليدي يا ربي… وليدي يا ربي… وليدي يا ربي… وتكرر ذلك ببطء وحزن ورجاء، دعوة تحس أنها تخرج من أعماق أعماق قلبها، تخرج من الروح، دعوة يدرك المرء من خلالها الكم الهائل من الحزن العميق الذي خلفه موت فلذة كبدها البار.

كنت أهرب من غرفتها كلما بدأت أمي في رجائها هذا، فلا طاقة لي بسماعه، كان دعاؤها يشعرني بالعجز والفشل والإحباط، بل بالشفقة على أمي، وأظن أن الحجر والحديد والصخر كان سيشفق عليها لو استمع إلى رجائها، كان ذلك الدعاء أو النداء أو الرجاء مصحوبا دائما ببكاء ودموع، كان كفيلا بتمزيق أقسى القلوب، كان صوتها أقرب إلى النحيب الخفي منه إلى البكاء، كانت تجهش بصوت خافت عندما كانت تردد “وليدي يا ربي”، واستمرت في ترديد ذلك إلى أن التحقت بفلذة كبدها.

قبل ما سبق، كنت قد فارقت الوالدة الكريمة في المنفى القسري لثلث قرن تقريبا، كان أكثر ما بيننا هواتف، لا تخرج أحاديثنا أثناءها عن الطقس: البرد والحر والأمطار…، والسؤال عن فلان وفلانة (كيف حال فلان، وكيف حال فلانة) مع بعض الأخبار الاجتماعية الأخرى من وفاة أو ولادة أو زواج … إلخ.

عندما تكون بعيدا عن والديك، يزداد إحساسك بالتقصير تجاههم، ويسيطر عليك الإحساس بالندم لكل كلمة أو همزة أو موقف سلبي بدر منك، مهما كان تافها، إحساس ثقيل قاتل يلازمك، خاصة وهم على قيد الحياة وتجد نفسك عاجزا في نفس الوقت عن تقديم أدنى الخدمات لهم، فيصبح حلمك الوحيد، أن تنال رضاهم، أن تُقبل أرجلهم، أن تطلب منهم السماح.

توفي الوالد الكريم ـ رحمه الله ـ ولم أكن في ليبيا، لم أستطع حضور مراسم الدفن، وصلت للوطن في اليوم الثاني من وفاته وحضرت باقي المأتم، ما خفف نذرا يسيرا من الإحساس بالذنب والآلام؛ لكن مستجدات طرأت جعلت من عودتي إلى ليبيا ـ في حالة وفاة الوالدة ـ أمرا مستحيلا؛ لذلك سيطر على نفسي لعقود، كابوس ثقيل في حالة انتقال الوالدة التي حُرمت من خدمتها ونيل رضاها إلى رحمة الله دون أن أراها، أو أتحدث معها ولو “كليمات”، ودون أن أقبل يدها أو أنال رضاها، كان الهم الذي يجثم على صدري من حين إلى آخر وفاة والدتي وأنا في المنفى القسري.

بعد قرابة الثلث قرن اندلعت ثورة 17 فبراير في ليبيا، واستطعت أن أعود إلى وطني، والتقيت بأهلي وعلى رأسهم السيدة الصبورة الحنونة الرائعة والدتي الكريمة، كان لقاء يحتاج إلى كتاب لوصفه، بل منّ علي الله ـ سبحانه وتعالى ـ بفضله فأكرمني برفقتها لعقد من الزمان وتقديم ما تيسر من خدمات.

وعلى الرغم من أنني جد لثمانية أحفاد؛ لكنها كانت تعاملني كطفل، كانت تنصح وتأمر وتوبخ وتأمر وتنهى وتنهر وتلوم وتضحك عليّ أحيانا، كانت تتحسس ملابسي قبل خروجي لتتأكد من أنها تقي البرد، كانت تأمرني بعدم الخروج قبل أن أرتدي ملابس أخرى تقيني برد الشتاء، كان سؤالها الدائم لي: هل أنت جائع؟، هل تغديت؟ ماذا تعشيت؟ أترك العمل قليلا وخذ قسطا من الراحة (تريح شوي من الشغل)، شغلتني عليك، لماذا تأخرت؟ (طولت)، لا تخرج الآن، شنو جبت لنا معك؟ سلمت على خوك فلان؟ اتصلت بأختك فلانة؟ امشي جيب لنا…إلخ، وكنت استمتع بكل ذلك وأنا جد لثمانية أحفاد، كانت تشعرني بالشباب من جهة، وتثبت بأن الأم ستراك طفلا كما ولدتك أول يوم، مهما بلغت من العمر.

رزقني الله صحبة الوالدة الحبيبة قرابة العقد من الزمن تقريبا، وفي إحدى الليالي كنت الوحيد معها في بيت العيلة، وطلبت مني أن أقلبها إلى جنبها الآخر، كانت تخرج صوتا كالبحة أو الحشرجة الخفيفة جدا، فزودتها بجرعات من الماء، وعندما ظننت أن هذه الحشرجة الخفيفة قد تكون لسعة برد، اتصلت بإحدى أخواتي كي تعد مشروبا ساخنا (شاي أو سحلب أو ما شابه)؛ لكنها أسلمت الروح بعد دقائق معدودة من ذلك، وبكل هدوء.

لم أدر ماذا أفعل؟ بدأت أناديها وأحدثها وأخاطبها لأكثر من نصف ساعة، ثم أجلستها، ثم أخذت أحركها وأهزها وأضمها عسى أن تستيقظ، ولكن دون جدوى، كنت أفعل ذلك على أمل أن يكون الأمر مجرد إغماء ستعود منه؛ لكنها أسلمت الروح لبارئها، وصمت الجسد الصابر على البلاء، صمتت الأم الصبورة الحنون الكريمة.

ثلث قرن كان الخوف أن تنتقل إلى بارئها دون أن أراها، فماتت بين يدي، بل وأنزلتها قبرها، وأحمد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن ألهمني أو أكرمني وقبلت رجليها قبل دفنها، قبلت رجليها قبل الدفن، وقبل تغسيلها، وسقطت مع هذه القبلات دميعات علها تزيل شيئا ولو يسيرا من الإحساس بالتقصير تجاه هذه السيدة العظيمة، وما قدمته في حياتها لأولادها وأحفادها ومجتمعها ووطنها ورب أسرتها.

دفنت الوالدة الكريمة في طرابلس، في نفس المقبرة التي دفن بها فلذة كبدها نوري، وفي نفس المدينة التي دُفن بها زوجها، رفيق عمرها، دُفنت في طرابلس، ودُفن والدها وأخيها الوحيد في بنغازي، ودُفنت أمها وجدها في قرية الأفاضل، ودفن أحباب لها في مدينة درنة، عاصرتهم جميعا، في حياتهم ومماتهم، ثم رحلت.

رحلت وقد تركتنا إلى عذاب الضمير، فلا تستجلب الذاكرة إلا لحظات تقصيرنا معها، مهما بلغت تفاهة ذلك التقصير، على الرغم من يقيننا بأن السماح والرضى مضمونان مع ذات القلب الكبير والروح السمحة المتسامحة الطيبة.

لقد أدت السيدة امباركة حق رعيتها، وأدت أمانتها، فوق ما يتخيل البشر، وكفت، ووفت، وضحت، واحترقت من أجل رعيتها، ثم رحلت حاملة معها تاريخا كاملا وسجلا ضخما مزينا بالجود والكرم والتضحية والصبر والعطاء، سجل مليء أيضا بالمعاناة والكد والكدح والغربة والشقاء والترحال والأحزان، ولا نقول إلا ما يرضي الله ـ سبحانه وتعالى ـ: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعزاؤنا قوله تعالى: “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي“.

وفي نهاية هذا العرض المتواضع أهديك يا سيدتي الرائعة هذه الأبيات التي يستحق من نظمها أن نقبل رأسه ألف ألف مرة ويزيد، أبيات تقول:

يا ليتني لم أقلْ أُفّ لها أبداً *** وليتني لم أُرقْ دمعاً لعينيها

وليتني عشت مملوكاً لخدمتها *** أُذلّ عزّةَ نفسي عندَ نَعليها

وليتني لم أنمْ نوم الخليّ وقد *** جافى لأجلي لذيذَ النومَ عينيها

وليتني كنت جبراً عند دمعتها *** أعطي لها ما تَمنت من أمانيها

وليتني عندما كانت تُقبلني *** سرقتُ رائحةَ الجناتِ من فيها

وليتها عندما كانت تهدهدني *** بقيتُ طفلاً تداريني بكفيها

أمي وأحسبُ أني حينَ ألفظها *** لا شيء في هذه الدنيا يساويها.

وبرحيلها تحول بيت العيلة الذي كان يعج ـ بسببها – بالحياة والحركة والفعاليات والأصوات والضحكات والأناشيد والمزاح واللعب والطرب البريء والفرح والاحتفالات والمزاح والضجيج والزوار، بيت العيلة الذي كان يجمع شمل أكثر من ثلاثة أجيال من نساء ورجال وشباب وشابات وأطفال تحول برحيل السيدة امباركة إلى جدران باردة صامتة قاتمة باهتة، لقد مات البيت معها، وكنت كلما أمر على غرفتها، وأنظر إلى البقعة التي كانت تحتضن سريرها، البقعة التي كانت مركز الحياة في البيت، أقول: أمي كانت هنا، أقولها فيُفتح ملف التقصير وعذابات الضمير والحزن والأسى على فقدان إحدى السيدات العظيمات التي أعطت ووفت وكفت، ثم رحلت بهدوء الطيبين.

رحمك الله يا أماه، رحمك الله، رحمك الله، رحمك الله، رحمك الله، بعدد البشر والنجوم والحجر وحبات الرمل والشجر، رحمك الله وغفر لك، وجزاك الله عنا وعن الوطن ألف ألف ألف خير ويزيد، لقد كفيتي ووفيتي وكنت مدرسة عظيمة لأجيال وأجيال وأجيال، وعزاؤنا أنك الآن في عالم أفضل، بين يدي مليك مقتدر، وأنك ستلتقي – بإذن الله – بمن فقدت من أحباب وعلى رأسهم فلذة كبدك نوري، والله على كل شيء قدير.

أودعك يا أمي، وأقول بأني ما شهدت وما خطيت وما ذكرت وما رويت في عرضي هذا إلا بما علمت وسمعت وشاهدت ورأيت وعشت، والله على ما ذكرت وخطيت وسردت شهيد، أودعك يا أمي وأقول لك بأنّ كلماتي هذه لا تمثل نقطة من بحر من عطائك وصبرك وتسامحك وطيبتك وتحملك، ولا توفي هذه الكلمات مقدار ذرة من حقك علينا، ولي بإذن الله عودة معك، فقد فارقتينا جسدا، لكن روحك باقية باقية باقية باقية باقية في قلوبنا ونفوسنا ووجداننا إلى أن نلتقي بك في الفردوس الأعلى بإذن الله، والله على كل شيء قدير.

فتحي علي الفاضلي – كتبت في 8-8-2021م.

 1