بمناسبة اليوم العالمي للإيدز

حدثتني سندس .. فقالت:

سندس زكرياء العياشي، أول ضحية من ضحايا أطفال الإيدز في ليبيا، تبلغ اليوم أحد عشر ربيعا، فهل انتهت مأساتها؟ وهل انتهت مأساة غيرها من ضحايا أبشع جريمة شهدها وما زال يشهدها الكون حتى يومنا هذا؟ وهل انتهت آلام وإفرازات وتراكمات هذه الكارثة؟ أم أن ضحاياها مازالوا حتى يومنا هذا ضحايا.

 

سنتعرف في هذا العرض المتواضع على سندس، التي استقبلتني بكل جود وكرم ومودة وترحاب، استقبلتني في بيتها، في مدينة بنغازي، وحدثتني بما تمر به من آلام وهموم وأحزان، فمن هي سندس؟

ولدت سندس العياشي في مدينة بنغازي في السابع والعشرين من شهر مارس، من عام 1997م. وفي أحد أيام شهر سبتمبر، ربما السابع عشر من شهر سبتمبر، من عام 1997م، بدأت سندس تعاني من آلام حادة في الصدر، مصحوبة بارتفاع في درجة الحرارة، فأسرعت بها والدتها السيدة ماجدة علي الفاضلي، إلى مستشفى الأطفال العام (مستشفى الفتح سابقا).

 

سندس ووالدتها.. السيدة ماجدة

كانت سندس تعاني في تلك الليلة من آلام والتهابات شديدة في الصدر، كما بدأت منهكة جدا، وظهر عليها وبكل وضوح علاماتُ الضعف الشديد، فحُقنت في المستشفى بمضاد حيوي، مع توصية من الطبيب الذي عالجها، بتوفير تغذية خاصة بها. وفي اليوم الثاني من زيارتها للمستشفى ازدادت حرارتها ارتفاعا، فتقرر قبولها (بقائها) في المستشفى، مع إجراء كشوفات طبية عديدة أخرى، أثبتت الكشوفات أنّ سندس تعاني من التهابات في المسالك البولية، وتعاني بالتحديد من انسداد في حالب الكلية اليسرى، تسبب في عودة البول إلى الكلية، فتقرر إثر ذلك إجراء عملية جراحية في المسالك، لمعالجة هذا الأمر.

وفي السابع والعشرين من شهر مارس من عام 1998م (أي في عيد ميلاد سندس)، دخلت سندس إلى مستشفى السابع من أكتوبر (برديشموا سابقا)، وأجريت لها بعد ثلاثة أيام تقريبا ـ أي في أول أو ثاني يوم من شهر ابريل من عام 1998م ـ عملية المسالك، وبعد فترة قصيرة نسبيا غادرت سندس المستشفى الذي زودها بحقيبة بلاستيكية ملاصقة لجسمها، تستخدم لتجميع البول. لكن الآلام لم تفارق سندس، فاستمرت حرارتها في الارتفاع وبصورة مخيفة. عادت بها والدتها إثر ذلك إلى المستشفى، وحاول الأطباء والممرضون التعامل مع الارتفاع المستمر في درجة الحرارة، ولكن دون جدوى، فقد استمرت حرارتها في الارتفاع ولمدة خمسة عشر يوما، وساءت حالة الضحية، حتى بدأ البول يخرج من جنبها عند منطقة البطن.

 

حملتها والدتها بعد ذلك إلى مركز الكلى بمستشفى الزهراء بمدينة طرابلس، وذلك في شهر مايو من عام 1998م، لإجراء عملية غسيل للدم، أخذت بعد ذلك إلى المركز الطبي بطرابلس، لإعادة إجراء نفس عملية المسالك التي سبق وأن أُجريت لها في مدينة بنغازي. وتبعا للإجراءات والخطوات المتبعة عند إجراء العمليات، تم سحب كمية من دم سندس استعدادا للعملية من جهة، وللكشف عن الوباء الكبدي وفيروس الإيدز قبل إجراء العملية من جهة أخرى، وهو نظام متبع في أغلب مستشفيات ليبيا، كانت سندس تبلغ من العمر في ذلك الوقت قرابة العام وثلاثة أشهر.

 

لم يخبر المستشفى أهل الضحية بنتائج الكشف على فيروس الإيدز وفيروس الوباء الكبدي (سلباً أو إيجاباً)، ليس ذلك فحسب، بل وفي خطوة محيرة، ومرعبة في نفس الوقت، طلب المستشفى عينة من دم الأب، وأخرى من دم الأم للتأكد من خلوهما من فيروس الإيدز.

ومما زاد الأمر حيرة واستغرابا وتعقيدا أنّ أمن أو قسم مكافحة الإيدز، قام بتزويد الأب والأم (السيد زكريا والسيدة ماجدة) بإرشادات الوقاية من فيروس الإيدز.

 

أخبر الأب والأم الأهل والأصدقاء والأقرباء والجيران، بهذه الخطوة الغريبة، ففتحوا على أنفسهم بابا من الجحيم الاجتماعي، وانتشرت الإشاعات والظن والتهم والقيل والتشكيك والقال طعنا في الوالدين، اللذين أصبحا هم أيضا ضحايا قلة الوعي بأسباب ومسببات وخلفيات هذا المرض، صدم الوالدان بذلك، ومرّا بمعاناة نفسية واجتماعية ومعنوية هائلة، لكن الصدمة التي كانت تنتظرهم، كانت أضخم مما قد يتخيل العالم بأكمله.

 

فقد أخبرهم المستشفى بالخبر الكارثة، والذي وقع عليهم وقع الصاعقة الصاعقة الصاعقة، فقد علم أهل الضحية عن طريق المستشفى بطرابلس بأنَّ الأجهزةَ والأدوات الطبية التي استخدمت في مستشفى الأطفال في بنغازي لإجراء عملية المسالك لسندس ربما كانت ملوثة بدماء تحمل فيروس الإيدز، أو ربما تلقت سندس دماء ملوثة بنفس الفيروس أثناء إجراء العملية، وقد طال التلوث الطفلة سندس فأصيبت بمرض الإيدز.

 

توالى بعد ذلك اكتشاف حالات الإيدز في بنغازي، فاكتشفت الحالة الثانية في شهر أغسطس من عام 1998م تقريبا، كما اكتشف في نفس الوقت أمر آخر غاية في الأهمية، فقد وُجد أن أغلب حالات التلوث بالإيدز، كانت تتم في جميع الأقسام تقريبا، ما عدا قسم أمراض الدم والولادة والجراحة.

 

مزق المرض ضحيته سندس، صحيا واجتماعيا ونفسيا، معنويا وحسيا وعضليا، فلم تكن آلام المرض الحسية، هي الآلام الوحيدة التي عانت منها سندس، وعانى منها باقي ضحايا هذا المرض، من فلذات أكباد الوطن ليبيا.

 

سندس طفلة تريد أن تتفاعل مع الحياة كما يتفاعل معها أي طفل أو إنسان آخر. لكن لعنة هذا المرض كانت تلاحقها في الشارع والمدرسة والحي الذي تسكنه، كانت لعنة هذا المرض تلاحقها في المتاجر والمساجد والأسواق، مع الكبار ومع الصغار، مع الأصدقاء والأقرباء والجيران، ومع كل من علم بكارثتها.

 

دخلت والدتها إلى غرفة الفصل يوما فوجدتها معزولة بصورة مهينة عن باقي التلاميذ، معزولة بطريقة يتألم لها البشر والحجر والشجر. كان هذا المشهد، مصحوبا بما تيسر، من الهمز والغمز واللمز المتواصل، من قبل زميلاتها.

 

الأطفال يهربون من سندس، عندما كانت تقترب لتلعب أو تتحدث أو تتفاعل معهم، أو عندما تحاول أن تمارس معهم شيء من حقوق طفولتها، هكذا حدثتني سندس، وقد انهمرت بالبكاء، هكذا حدثتني ودموعها تسيل على خديها، ويا ليت الأمر قد انتهى عند هذا الحد، فقد كان هروب الأطفال من محيط سندس، مصحوبا بتعليقات وإشارات وملاحظات لاذعة، بل قاتلة نفسيا، تعليقات أغلبها مزيج من سخرية وإهانات واستهزاء وقهقهات، ناهيك عن تعابير الاشمئزاز التي غالبا ما تصاحب تلك التعليقات القاتلة، تعابير متنوعة ومختلفة ومتعددة، باليد والوجه واللسان، تعابير وإشارات وحركات، تؤدي جميعها إلى محصلة واحدة وهي أن سندس منبوذة، ولابد أن تستمر كمخلوق منبوذ وإلى الأبد، سندس اليوم تبكي كثيرا، وحيدة، دون أن تخبر أحدا بسبب بكائها، وهي تعاني هذه الأيام من تعقيدات صحية عديدة بما في ذلك الكلى.

 

كانت سندس تدرك أنها مصابة بمرض معدي، يشكل خطرا على حياتها، وعلى حياة غيرها، إلا أنها لم تدرك، ولم تتقبل، ولم تفهم الأسباب التي من أجلها ينبذها الناس بهذا الشكل الأقرب إلى الازدراء منه إلى الحذر والرحمة والشفقة، وبهذا الشكل الذي يضيف إلى آلامها آلاما، وإلى معاناتها معاناة، بدلا من أن يخفف عنها شيء من مأساتها، فمن حق الجميع الحذر، ولكن ليس من حق أحد أن يزدري إنسانا ما، خاصة إذا كان هذا الإنسان ضحية، يحتاج إلى العطف والدعم والعون.

 

صحبتها والدتها يوما إلى إحدى المناسبات الاجتماعية، فجلست هي وفلذة كبدها على مائدة الطعام، التي يفترض أنها تضم من أربعة إلى خمسة من الضيوف، كما جرت العادة في ليبيا. لم يجلس معها أحد ولم يشاركها المائدة (المقعد) أحد، بل الأسوأ من كل ذلك أنّ القادمين الجدد من الضيوف كانوا عندما يرون الأم وابنتها جالستين وحدهما كانوا يسارعون في البحث عن مقعد آخر، أو يسارعون بالانصراف تاركين المكان، دون أن يفوتهم التلفظ بجملة سطحية، أو كلمة أو تعليق أو اعتذار أكثر سطحية، يفسرون به سبب انصرافهم، أو بالأحرى سبب هروبهم من طبقة “المنبوذين”، فتنهض الأم في الغالب وتترك المناسبة والحدث والمكان، وهي تذرف الدموع لمثل هذه المشاهد التي تكررت وتكررت وتكررت في مناسبات ومواقف وأحداث عديدة، مشاهد تكاد أن تحطم الأم، وتحطم طفلتها المحطمة أصلا.

 

وهكذا فمجتمعنا الذي قلب العالم ولم يقعده بسبب قضية الإيدز، وكان محقا في ذلك، نفس المجتمع، يأكل ويضحك ويمرح ويحلل ويتحدث ويحرم، وينبذ في نفس الوقت ضحايا الإيدز، وهو بالطبع غير محق في ذلك، وهكذا فمجتمعنا الغاضب من أجل قضية الإيدز، لم يرحم ضحايا الإيدز.

 

وتزداد آلامنا آلاما إذا علمنا أن لسندس، على الرغم من محنتها، أحلاما وطموحات وآمالا، سندس تحلم بصفة عامة، بمستقبل رائع باهر زاهر، وتحلم بصفة خاصة بأن تكون مترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، لكن سندس لا تستطيع القراءة أو الكتابة، على الرغم من أنها بلغت أحد عشر ربيعا، لقد تركت الدراسة بسبب ما كانت تعانيه في المدرسة من العزل والحذر والتهميش، فهل نقتل سندس مرة إضافية أخرى عبر تحطيم آمالها ورغباتها وطموحاتها!

 

بذلت الأم، وبذل الأب، الجهد الجهيد، في محاولة تعليم سندس، بل إن أمية سندس تعتبر كابوسا آخر، بعد كابوس الإيدز، جاثم على صدر أمها ليلا ونهارا. استرحمت الأم أكثر من مرة، مدرسين ومدرسات وموجهين وتربويين، وترجتهم أن يقوموا بتعليم ابنتها، مهما كلف ذلك من وقت وجهد ومال، لم تترك الأسرة صديقا أو قريبا أو جارا دون أن تحدثه عن قلقها تجاه تعليم فلذة كبدها، اقتربت الأم مرة من إحدى صديقاتها الحميمات من مدرسات اللغة العربية، وعرضت عليها تعليم ابنتها القراءة والكتابة على الأقل، فرفضت الصديقة الحميمة ذلك، وبالطبع لم تخف أسباب رفضها. وقبلت صديقة أخرى ـ وهي موجهة تربوية ـ قبلت القيام بتعليم سندس، لكن زوجها منعها من ذلك، وهكذا فإن الأسرة تمر بطبقات من المعاناة مع المرض، وتداعيات المرض، ومعاناة لا تقل عن سابقاتها حول حاضر ومستقبل طفلتهم، والأم تترجى من على هذا المنبر أيضا، تترجى الجميع أن يمدوا يد العون لابنتهم بخصوص تعليمها على الأقل.

 

أما سندس فإنها تدرك أيها الليبيون، بأنها تعاني من مرض معد، قد يضر بالآخرين، لكنها لم تدرك كضحية، لماذا تُعامل بهذه الصورة المزرية! ولماذا لا يرتب لها ولغيرها من الأطفال ضحايا هذا المرض أمر يضمن لها ولباقي الضحايا كرامتها وإنسانيتها وآدميتها التي أهدرها المرض وأهدرها المجتمع! أمر ما يضمن لها حقوقها الاجتماعية والنفسية، ويضمن لها في نفس الوقت حماية الآخرين دون امتهان لكرامتها، ودون إهانات وازدراء ونبذ وعزل وسخرية واشمئزاز واستهزاء، البعض يتحدث عن إنشاء نوادٍ ومراكز ومؤسسات خاصة تؤسسها الدولة، مزودة بكل ما يحتاجه الضحايا وأهالي الضحايا، من وسائل ترفيه وتربية وتعليم وتوعية وتثقيف حول المرض وتداعياته وأسبابه ومسبباته وكيفية تفاديه وكيفية التعامل مع ضحايا هذا المرض، نوادٍ ومراكز ومؤسسات يرتادها الضحايا من الأطفال، ويرتادها أيضا الكبار، من أهالي الضحايا والأصدقاء والأقرباء والمتعاطفين والجيران، نوادٍ ومراكز ومؤسسات خاصة بالضحايا ومن حولهم، يلعب فيها الأطفال ويمرحون ويتعلمون ويجتمعون ويخططون لمستقبلهم، يعلنون منها وبكل صراحة ومباشرة ووضوح عن طموحاتهم وآمالهم وأحلامهم، يدرك كل منهم أنه ليس وحيدا في هذه الدنيا، ويدرك كل منهم أن له دولة وشعبا وقادة مسؤولين، يدركون معنى المسؤولية والواجب والرعية.

 

لابد أن يتحرك المجتمع بكامله من أجل ضحايانا الذي لم يعد أغلبهم أطفالا، ولكل منا دور مهم في هذا الأمر، المساجد، والمستشفيات، والمدارس، والمعاهد، والحركات الإسلامية والوطنية، ومؤسسات الدولة، والمؤسسات المدنية والأهلية، والأحزاب، والجامعات والإعلام، والجامعات، للكل دور، فأقل واجباتنا أفرادا وجماعات ومؤسسات ودولة وجمعيات أن نخفف كل بقدر جهده، من آلام الضحايا، لا أن نزيدها بقصد أو بغير قصد، على المجتمع الليبي أن يثبت أن حجم التفاعل والغضب والاستنكار الذي أظهره الشعب الليبي تجاه قضية الإيدز يساوي رغبتنا في أن نخفف عن الضحايا شيئا من آلامهم.

 

على الدولة الليبية، وعلى المجتمع الليبي الذي أغضبته قضية الإيدز بكل مؤسساته الخاصة والعامة أن يحول غضبه وتعاطفه وتفاعله النظري مع فلذات أكبادنا إلى أفعال وخطوات وقرارات، تهم الضحايا، ولا تهم الكبار أو الساسة، لابد أن يُفتح ملف هذه القضية من جديد، ومن جميع جوانبه، بما في ذلك التحقيق في هذه الجريمة، فمن حق الضحايا أن تضمن لهم حقوقهم الصحية والنفسية والاجتماعية قبل أن يضمن لهم حقوقهم المادية.

 

سندس على الرغم من صغر سنها، وعلى الرغم من معاناتها، تدرك وباختصار أنها منبوذة اجتماعيا أينما حلت، وتدرك أيضا أنها منبوذة بسبب مرضها، وتدرك أن مرضها معد، وتدرك كذلك أنها منبوذة من قبل الكبار، ومن قبل الأطفال، البنات منهم والأولاد، الأقرباء منهم وغير الأقرباء، تدرك كل ذلك، لكنها لم تدرك عجز الجميع عن معاملتها كضحية مصابة بكارثة، تحتاج هذه الضحية إلى دعم ومساندة وعون معنويا على أقل تقدير، وأعذرها إن لم تدرك ذلك، فأنا أيضا لم أدرك سبب هذا العجز في معاملة أية ضحية، كضحية.

 

سندس وباختصار شديد، لا يهمها كيف أصيبت بالمرض، ولا يهمها أنها حقنت عمدا، أو بغير قصد، ولا يهمها أن الممرضات البلغاريات، والطبيب الفلسطيني، هم الذين حقنوا الأطفال، أو أنها المخابرات المركزية، أو الموساد، أو الهنود الحمر، أو الهند، والصين، والسند. لا يهمها سندس أن الجان والشياطين والهوام، هم الذين حقنوها، لا يهمها على الإطلاق أن النظام الطاغوتي المنهار هو الذي حقنها بفيروس الإيدز، لا يهمها بعد أن تلوثت حياتها أن الأجهزة كانت ملوثة أو كانت جديدة أو معقمة أو قديمة، هي في هذا السياق ترى نفسها شاة ذُبحت فلا يهمها أن تُسلخ.

 

سندس من جهة أخرى، لا يهمها على الإطلاق أن ضحايا الإيدز وأهاليهم قد تلقوا الملايين، أو القروش، أو البلايين كتعويض مادي، عادلا كان ذلك التعويض أو غير عادل، فبلايين الأرض لا تستطيع أن تخفف عن سندس، وعن أسرة سندس ثانية واحدة من المعاناة، بل أن التعويض التافه مهما بلغ الذي تلقته الأسر تحول إلى لعنة أخرى أضيفت إلى لعنة الإيدز ولعنة التهميش ولعنة الانضمام إلى قائمة المنبوذين.

 

سندس لا يهمها أيضا الجانب القانوني أو السياسي أو الاقتصادي لهذه القضية، ولا يهمها انعكاسات قضية الإيدز على المجتمع الدولي، لا يهمها الاتحاد الأوروبي، ولا يهمها هي وغيرها من ضحايا الإيدز لا يهمهم جميعا، ساركوزي وفرنسا والقذافي وإيطاليا وبلغاريا وهيئة الأمم واليونسكو ومنظمة الصحة العالمية والثورة والنخب والدولة، لا يهمهم على الإطلاق طبيعة الحكم الذي صدر ضد المتهمين في هذه القضية، براءة كانوا أم مجرمين، سندس لا يهمها ما يتحدث عنه الكبار والصغار، من غير المصابين بهذه الكارثة، فكل ذلك، كان عند سندس، وعند أطفال ليبيا من ضحايا الإيدز هراء، لا يلقون إليه بالا.

 

سندس يهمها أنها من البشر، تتعذب وتعاني وتموت في اليوم الواحد، ألف ألف مرة، تموت اجتماعيا ونفسيا وإنسانيا، تتألم كل ثانية، يلفها الخوف والقلق والرعب، من الأمس الذي لم يغادرها، ومن اليوم، ومن الغد، تخاف من حاضرها ومستقبلها، تهان كل دقيقة، وتموت في كل مناسبة، ترى غيرها من الأطفال يمارسون طفولتهم، يلعبون ويمرحون ويتضاحكون، يتمتعون بالحياة وببراءة الحياة، يذهبون إلى المدارس والحدائق العامة، والأفراح، والمناسبات، والأسواق، يحتضنهم، ويقبلهم أقربائهم وأصدقائهم وأهاليهم، بفرح وسعادة ومرح، أما سندس، وغيرها من الضحايا، فلا، وألف ألف لا، إنهم لعنة على مجتمعنا، لابد أن تُنبذ، وتُعزل، وتُلفظ، وتُطرد، وتنفى، معنويا من الكون.

 

ولأنّ سندس ضحية، فلابد وحسب معاييرنا اللا إنسانية أن تستمر وإلى الأبد كضحية، ولأنها أصيبت بطامة فلابد أن تستمر وتزداد وتتضاعف وتنمو طامتها، إلى أن تموت، الموتة الأخيرة، وحتى عند الدفن لابد أن نذكر المعزين والدافنين وحفار القبور أيضا، بأنّ سندس مخلوقة منبوذة، أصيبت إصابة قسرية بسببنا، وفوق إرادتها، بمرض نقص المناعة، وذلك كي يحذروا ساعة المشاركة في جنازتها، والمشاركة في دفنها أن يصيبهم ما أصابها.

 

أيها الليبيون..

لابد أن يستوعب مجتمعنا الضحايا بفطنة وحكمة وعقل؛ لأنهم وبكل بساطة فلذات أكباد الوطن، ولأنهم ضحايا، ولأنهم لا ذنب لهم، فيما جرى لهم، ولأن كل ذلك حق من حقوقهم، كفلها الله لهم، ولأن ذلك أقل واجب من واجباتنا تجاه الرعية، ولأنهم فوق كل ذلك من البشر، ولأننا نريد نحن أيضا أن نكون من البشر.

 

لابد أن يستوعب مجتمعنا الضحايا، وأن يكفل لهم كافة حقوقهم الطبية والنفسية والاجتماعية والمادية والتعليمية، بصرف النظر عما قام به النظام الطاغوتي المنهار، بخصوص هذه القضية، لا مفر لنا من كل ذلك، فلسان حال الضحايا مازال يستصرخ ضمير الوطن، ويردد بحزن وإحباط ويأس: أيها الناس، هل من فارس ينتزع لنا من أتون الظلم حق؟.

د. فتحي الفاضلي

طرابلس 7 ديسمبر 2011م.