الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لا سبيل عندي غير إحسان الظنّ بهم؛ فهم بصفاتهم وفعالهم لإحسان الظن بهم أهلٌ ومَحَلٌّ، غير أنّ الحقيقة العلمية لها احترامها وتقديرها الذي يسمو فوق كل الاعتبارات الشخصية، إلى حدّ أنّ المداراة للأشخاص على حساب الحقيقة يمهد الطريق لنسف المصداقيات، بما فيها ما يتعلق بالمشاعر الإنسانية المتبادلة؛ فالإنسان الذي يقدر الحقيقة هو وحده القادر على أن يعرف للرجال قدرهم ويصون ودّهم.
والحقيقة لدى إخواننا هؤلاء – فيما يتعلق بالنظام السياسي الإسلاميّ – غائمة وغائبة، وهم يحاولون أن يثبتوا أنّهم أهل الوسطية والاعتدال؛ وقد حار الخلق: أين الوسطية والاعتدال وقد ادعاهما كل غاد ورائح؟! فإن لم تكن هي عين ما جاء به الكتاب والسنة وما اشتملا عليه من منهج الله وشريعته فماذا تكون؟! وكيف عندئذ نفهم قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة 143).

اتجاه دوغماتيّ مغلق


أدرك تمام الإدراك أنّ الحياة تغيرت وتطورت بما يحيل تطبيق النماذج التاريخية التي وقعت في الأمة الإسلامية بما في ذلك التجربة الراشدية بكامل تفاصيلها وجميع مكوناتها، وبما يستوجب التطوير الذي لا يمكن أن يتم إلا بالاكتساب من التجربة البشرية وإنتاج العقل الإنسانيّ، أعي ذلك جيداً وأتفق مع إخواننا هؤلاء في هذه القضية الفاصلة، والخلاف إنّما في تحديد المساحة المرنة التي يسمح منهج الله فيها بالابتكار والاقتباس والتطوير والإبداع.
فإذا بدأنا من الخطوط الخارجية التي تحدد المساحة المحكمة وتضع خطا فاصلا بين ما هو من الثوابت وما هو من المتغيرات؛ فإنّنا قطعاً سنرفض اتجاهين ذاهبين أقصى اليمين وأقصى اليسار، الأول: اتجاه المتعلقين بالنموذج التاريخيّ ولاسيما الخلافة الراشدة بكل تفاصيله، دون تمييز بين ما هو من قبيل الأحكام الثابتة وبين ما هو من قبيل موارد الاجتهاد، ودون تفريق بين ما هو من الأحكام وما يكون من الوسائل والأدوات، فهذا اتجاه دوغماتيّ مغلق يتجه بالأمة إلى دعشنة الحياة والمؤسسات وعقول الناس.
والاتجاه الثاني المقابل له تماماً هو الاتجاه الذي يفرغ الإسلام في ميدان السياسة من محتواه، ويحيل في طبيعة الأمور تمييزه في العاجل أو الآجل من أي نظام أو فكر أو أيديولوجية أخرى، وهو اتجاه القائلين بأنّ الإسلام لم يأت في ميدان السياسة إلا بجملة من المبادئ العامّة والقيم الكلية، كالعدل والشورى وغير ذلك، مما هو بالفعل من صميم النظام الإسلاميّ، وأَبْسَطُ ما يمكن أن يُرَدَّ به هذا الزعم هو أنّه يوشك أن يزيل الفرق بين الإسلام وغيره مما عرفه الناس على وجه الأرض، وهل يختلف أحد من خلق الله اليوم على إقرار هذه المبادئ؟! وهل ينازع أحد ممن يقطن الكوكب الأرضي على سعته وامتداد عمرانه في شيء من ذلك؟!
إنّ المشكلة ليست في إقرار مبدأ العدل – مثلا – من حيث الأصل، إنّما المشكلة في الأحكام المنظمة لهذا المبدأ، بدءاً من الأحكام القضائية المنظمة للحكم والقضاء ومروراً بالقواعد الكلية الجامعة التي تصدر عنها الأحكام التفصيلية وانتهاء بالقواعد القانونية المستقاة من الأحكام الشرعية العملية، فلو تجاوزنا الأحكام المتعلقة بالإثبات والدعاوى والشهادة وصفات القاضي وغير ذلك وذهبنا للأحكام العملية لواجهتنا العديد من المشكلات التي ستجعلنا نصطدم شئنا أو أبينا بأحكام الشريعة الغراء؛ إذ لو من منطلق مبدأ العدل طرح البرلمان مثلا قانونا يقضي بالتسوية بين الابن والابنة في الميراث، أو توزيع حق القوامة بين الزوج والزوجة، أو غير ذلك؟ فماذا سيكون موقفنا؟ أو من منطلق مبدأ الحرية – وهو في الإسلام مبدأ أصيل ومقصد كليّ أكيد – سنّ البرلمان قانوناً يعطي الحق للمرأة أن تتبرج في المجتمع كما تشاء أو للبنت أن تصاحب وتخادن من تشاء وليس لوليها حق منعها من ذلك؛ فماذا يكون الموقف؟!
فليست المبادئ وحدها كافية وإن كانت أعمدة أساسية، وعلى الجانب الآخر لو أقمنا خصومة مع كل جديد؛ لمجرد أنّه وافد من غير المسلمين لجانبنا الإنصاف وتجافينا عن نهج الاعتدال ولوقعت منّا المزايدة الرخيصة على شرع الله ومنهجه؛ لأنّ صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم اقتبس من تجارب الآخرين وإنّه والله لأتقى الخلق وأخشاهم لله، وعمليا كيف سنحقق سلطان الأمة وحقها في اختيار من يحكمها عبر بيعة يتم فيها الصفق على الأيدي في المسجد أو في سقيفة بني فلان؟! إنّ الجنوح إلى هذا التمسك الحرفيّ صورة من صور الغلو والتزيّد الذي تأباه طبيعة الإسلام الذي ختم الله به الرسالات وعمّ به الخلق إلى يوم الدين.

ميدان الفقه السياسيّ


كلا والله لا يستقيم الأمر على جهة من هاتين الجهتين الغاليتين بالتفريط تارة وبالإفراط أخرى، وإنّما يستقيم لنا ونستقيم عليه إذا انطلقنا من الإيمان الواثق بخاصيتين من خصائص الإسلام التي لا يختلف عليها مسلمان، الأولى: الشمول والعموم، الثانية: المناسبة لكل زمان ومكان، فأمّا الأولى فتحيل في العادة أن يكون الإسلام قد علمنا كل شيء حتى آداب الفراش والأكل وقضاء الحاجة ثم تركنا في الشئون الكبيرة نتسول الأمم ونستجديها أن تمطر علينا مما برع فيه مفكروها وفلاسفتها، وأمّا الخاصية الثانية فتستلزم بالضرورة أن يكون منهج الله قد اشتمل على مساحات عفو تعطي الشريعة مرونة وقدرة على التكيف مع تطورات الحياة، دون أن تتغير صبغتها ولا أن تتبدل أحكامها الثابتة.
وباستقراء أحكام الشريعة في ميدان الفقه السياسيّ نجد أنّها أتت بمبادئ عامة، قواعد كلية، وأحكام شرعية ثابتة، تمثل كلها منطقة الثوابت، وتشكل بمجموعها الهيكل العام لنظام سياسيّ كامل شامل، لا ينقص من كماله وتمامه اشتماله على مساحات عفو تشريعيّ أو مناطق تكثر فيها موارد الاجتهاد، بل هذا ما يزيدها كمالا وتماما ورشداً، وإلى جانب منطقة الثوابت هذه توجد مساحتان كبيرتان، الأولى: مساحة الأحكام الاجتهادية المتغيرة، والثانية: مساحة الأدوات والآليات والأمور التقنية والفنية والتنظيمية، فأمّا الأولى فيملأها الاجتهاد الشرعيّ الذي يتجدد وتنطبق عليه قاعدة “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان” وأمّا الثانية فيملأها العقل والتجربة بالابتكار أو الاقتباس، الأولى مثالها الشروط الواجب توافرها في رئيس الدولة أو السلطان أو الخليفة، فهذه مجال اجتهاد فقد اشترط الأوائل أن يكون قد بلغ رتبة الاجتهاد، بينما اعترض على هذا الشرط بعد ذلك الغزالي والجويني وابن خلدون وغيرهم، والثانية مثالها الانتخابات كبديل عن البيعة، فالبيعة آلية لتنفيذ حكم شرعيّ هو وجوب اختيار الحاكم، وهو حكم يشتمل على حق للأمة هو أنّها مصدر الشرعية السياسية، أمّا البيعة فهي آلية لتحقيق هذا الحكم ووسيلة لتنفيذه، ولا مانع من استبدالها بالانتخابات بعد ضبطها ببعض الأحكام.

حصر النموذج الإسلاميّ


والحقيقة التي ينساها كثير من هؤلاء الطيبين أنّ ما يريدون جرّ الأمة إليه صار عند أصحابه كقطعة الخردة البالية، وباتوا يتلفتون إلى السبيل الذي يخرجون به من الحرج، ومع ذلك فإنّك إن لم تملك القوة واستقلال القرار السياسيّ فلن يسمح لك صانعو النموذج المعاصر بأن تطبقه على الوجه الذي يحقق لك شيئا من المنافع التي ترجوها، فلن يسمحوا بأن ينال الشعب حقه في اختيار من يحكمه، ولا أن يمارس حقه في عزل المستبد الغاصب، وهذان هما ذروة النظام الديمقراطي، وهي الحسنة التي يلتقي فيها مع النظام الإسلاميّ، وإنما سيسمح لك بل سيفرض عليك مبدأ “السيادة للشعب” بما يعني أنّ التشريع والتفرد بالحق في سن القوانين هو لنواب الشعب؛ الذين يأتون في الأصل بغير إرادة الشعب، ولا يحققون للشعب ما يريد لا في أمر دينه ولا في أمر دنياه.
والانحراف الذي يمارسه البعض ربما عن عمد يتمثل في حصر النموذج الإسلاميّ في التجارب التاريخية للملك الإسلاميّ العضوض، وهذا رغم أنّ مساوئه ليست بالضخامة التي يصورونها ليس هو الذي يعنينا، إنما الذي يعنينا هو الخلافة الراشدة التي جعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنموذج الذي يحتذى، ودلنا عليها وأمرنا بالاعتصام بها، في حديث العرباض بن سارية,
ويبقى من حق القارئ الكريم أن يسأل: وما هو شكل النظام السياسيّ الذي جاء به الإسلام؟ وهذا ما سوف نتناوله في المقال القادم بإذن الله ومشيئته.

د. عطية عدلان