نشرتُ هذا المقال في يناير 2016 .. وأعدت نشره في يوليو 2016.. ونشرته على عدة مواقع إلكترونية.. وشاركت به في الفضائيات على الهواء.. وشاركت به طلابي وطالباتي بكلية التربية.. عبر مختلف الفصول الدراسية..  ولسنوات عديدة.. ونشرته صوتياً  Live في 2024.. وها أنا أنشره  اليوم مرة أخرى نصياً.. وساشارك به ربما اليوم Live مرة أخرى.. ولن نتوقف بإذن الله.. حتى نستأصل معاً هذا الوباء.

من النادر أن نجد في انحاء العالم، وعبر التاريخ، مؤسسة تعليمية، بمختلف مراحلها، نظيفة تماما من ظاهرة الغش، فأينما وُجد امتحان، أو عمل صفي، أو واجب منزلي، أو نشاط تعليمي ما، فإن الغش يطل برأسه المسموم البشع القبيح.

لكن هذه الظاهرة المكروهة البشعة الممقوتة، تحولت في ليبيا، إلى وباء تفشى بين الكبار والصغار، لقد تغول الغش وانتشر في ليبيا بصورة مخيفة مريبة مرعبة، وأصبح ممارسة مقبولة، بل مرحب بها عند قطاع عريض، وعريض جداً، من المعلمين والمعلمات والطلبة وأولياء الأمور والتربويين والإداريين والتلاميذ. لقد تحول الغش – وبقدرة قادر- عند بعض المعلمين وأولياء الأمور، إلى مساعدة ومساندة ورحمة وإيثار وتعاون وحق.  

 سيدة – على سبيل المثال، يفترض أن تكون معلمة ومرشدة وموجهة ومربية وناصحة ومشرفة، تقف أمام باب القاعة التي يجري فيها امتحان ما، تقف لتنبه معلمة أخرى، تقوم داخل القاعة، بـ “تغشيش” الممتحنين من طلبة الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي، فإذا أقترب عضو من أعضاء لجنة الامتحانات، أو مدير المدرسة، تقوم زميلتها بتنبيه التلاميذ، ثم تتظاهر – أمام عضو اللجنة او المسؤول – بأنها صارمة،  فتحاضر على التلاميذ – وبصوت مسموع – عن مغبة الغش. هذا مشهد لا يمكن أن نسميه إلا خيانة من الطراز الأول.  

تلك المعلمة الخائنة لأمانتها وواجبها ورسالتها، لا تدري – في هذه الحالة – أنها لا تُعلم التلاميذ بعض فنون الغش وحسب، بل وتُعلمهم – بجانب ذلك – التهاون والكذب والسرقة والخيانة والكسل والنفاق. كما أن هذا السلوك الغريب، هو سطو على حقوق التلاميذ، وحقوق المهنة، وخيانة لهم ولأبائهم، بل وخيانة لله والوطن.       

معلمة أخرى تأخذ من الطالبات المتفوقات العاملات المجدات ورقة الإجابة وتمررها – بالدور – على باقي الممتحنين، وعندما تحتج التلميذة أو الطالبة صاحبة الورقة، تفتح لها المعلمة صندوق القيم والمباديء والأخلاق، فتذكرها بالرحمة والتعاون والتكافل ومساعدة الغير والإيثار. ماذا نسمي هذا؟ وقاحة؟ قلة ادب؟ غباء؟ تدليس؟ ظلم؟ غبن؟ تضليل، ما بعده تضليل؟ هذا المشهد المأساوي هو – في الواقع – خليط من كل ذلك.

ناهيك عن المعلم أو المعلمة التي تغضب لأن الطلبة أو التلاميذ يمارسون الغش وهم يصدرون اصواتاُ تزعجها، تغضب لأنهم يتحدثون بصوت مسموع أثناء الغش، فتذكرهم المربية الفاضلة، بأنها قد تكرمت وسمحت وأذنت لهم بالغش، ولكن شريطة أن يفعلوا ذلك بهدوء ودون أن يشعر أحد.

ليس ذلك فحسب بل تهددهم – في حالة الاستمرار في إصدار الأصوات – ان تحرمهم من نعمة الغش. شخصيا: أعجز عن إيجاد الكلمات التي تصف مثل هذا التصرف، السيدة ليست غاضبة لأن التلاميذ يغشون، وليست غاضبة لأنها سمحت لهم بالغش، بل لأنهم نقضوا العهد، وازعجوا مربيتهم المسكينة الفاضلة. 

معلمة أخرى تتصل هاتفيا، اثناء مراقبتها، بمعلمة أخرى في قاعة أخرى، تسألها علنا وعلى مسمع من التلاميذ،عن إجابات بعض الأسئلة، التي صعبت عليها، لتزود بها الطلاب الذين تشرف على إمتحانهم. 

معلمة أخرى تجمع، اثناء مراقبتها لأحد الامتحانات، أوراق الطالبات المتعثرات، وتضعها بين أيدي طالبة عاملة نجيبة مجدة مكافحة جادة، وتطلب منها الإجابة على أوراق تلك الطالبات، تحت بند المودة والمحبة والتكافل والمساعدة الأخوية والتعاضد.

معلمة تتردد في كل دقيقة على إحدى الطالبات، وتنظر إلى ورقتها، ثم تذهب إ.لى طالبة أخرى تعطيها الإجابات، وعندما سألت الطالبة – مربيتها الفاضلة – عن سر ترددها عليها طيلة الإمتحان تقريبا، أجابتها المعلمة: إن “فلانة” (الطالبة الأخرى) قالت لي: إنك “شاطرة” وطلبت مني ان انقل إجابتك إليها. 

معلمة مبدعة أخرى تقرأ الإجابات من الكتاب المدرسي علناً، على مسمع من جميع الممتحنين في قاعة الإمتحان. معلمين ومعلمات – يعطون في دروس خصوصية – يُسربون الإجابات لطلبتهم المشاركين في الدروس الخصوصية فقط.

معلمة تستفسر من زميلة لها، عن سؤال من أسئلة الإمتحان النهائي، يبدوا أنها لم تستوعب السؤال أو أنها تجهل الإجابة، صُدمت المعلمة – من سؤال زميلتها – لأنها هي التي وضعت الإمتحان النهائي، وأودعته بين أيدي لجنة الإمتحانات (الأمينة) أو “الكنترول”، ومن المفترض عدم تناوله أو نشره أو تسريبه إلا في لحظة انطلاق الامتحان. ومن الواضح أن المعلمة التي وضعت الامتحان، قد قامت بتسليمه إلى الأخ المربي الصادق المخلص الكريم الأمين، رئيس لجنة الامتحانات، والذي قام بدوره بتسريبه لبعض المعلمات استعداداً لمساعدة الطلبة، تحت نفس البند: الكرم والدعم والإيثار.  

أحد رؤساء لجان الإمتحانات، في إحدى المدارس، حاول إقناع إحدى المدرسات الحازمات والمخلصات لله والتعليم والوطن، بأن تأتي وتراقب اثناء الامتحانات التي ستُنظم في المدرسة. السيدة الفاضلة حقاً، رفضت مهمة المراقبة، بعد ن رأت – سابقا – مذبحة الغش – من قبل الكبار- في مدرستها، ولا تريد أن تكون إحدى جزارات الغش. السيد رئيس اللجنة، وفي محاولة يائسة لإقناع المعلمة بالمشاركة في مهمة المراقبة، طلب منها أن تتخلى عن الحزم، أو بمعنى آخر عن الجدية، في أداء عملها كمراقبة، قائلاً، بما معناه: “وما الفائدة.. إذا كنت حازمة مع الطلبة.. أثناء المراقبة.. في إحدى الامتحانات، فسيأتي، في امتحان أخر، معلم اأو معلمة أخرى.. ستقوم بتغشيشهم.. لذلك.. لا داع للحزم”.

هذا المشهد فيه إعتراف واستسلام وهزيمة وعجز وشراكة في التغشيش من قبل السيد رئيس اللجنة. كنت اتمنى أن يطلب من الشلة التي تقوم بالخيانة، أن تنْظم إلى السيدة الأمينة، بدلاً من أن يطلب من الأمناء أن ينضموا إلى طابور الخونة.

لم ينته الأمر بعد، بل في فترات سابقة، تواتر أن  معلمات ومعلمين وإداريون يُسربون الإجابات النموذجية، بمقابل وبدون مقابل، أما المقابل، فقد تواتر – وبقوة –  أنه مجرد دراهم بخسة معدودة، بل وقد تصل هذه الهبة العظيمة – إلى بطاقة هاتف مسبق الدفع (كرت) أحيانا، أو هبة أخرى عينية أقل بخسا. بل ان هناك من المساومات ما يخجل الصخر منها، مساومات أخجل ان أذكرها، لأنها تمثل صفعة وركلة ورذيلة وبصقة ووصمة عار على جبين الوطن الذي يعاني ويتألم ويئن من الف جرح وكارثة وجرح (والحمد لله انتهت تقريبا هذه الظواهر المسمومة التي جاءت في هذه الفقرة).

وماذا عن ولي الأمر، الذي  يوبخ ويعنف ويبصق على معلمة فاضلة رفضت أن تساعد إبنه على الغش، وولي الأمر الذي اعتدى بالضرب على معلم مخلص فاضل، رفض أن يخون أمانته، فيسمح لإبن الوالد الفاضل بالغش.

ناهيك عن ولي الأمر الذي يرسل، لإبنه أو إبنته بالإجابة .عبر الفيس أو المحمول أو عبر غيره من جوانب تقنية “النت”. من أين تحصل على الاجابات النموذجية؟ من يسمح  للطلبة بإدخال المحمولات الإلكترونية بأنواعها أو النقالات بأنواعها أو السماعات إلى قاعات الإمتحانات؟

ثم ماذا عن التهديدات التي يتلقاها المدرسين والمدرسات، تهديدات على مستوى عال من العنف، تصل الى حد التهديد بالضرب والقتل أو الخطف، اذا تجرأ – مدرس او مدرسة – على منع أبنائهم من الغش. بل ماذا عن الطالب الذي اجتاز المرحلة الثانوية ولا يعرف اسم المواد التي يمتحن فيها. وماذا عن مدير المدرسة الذي يطلب من بعض المدرسين الصارمين الجادين في المراقبة، أن يبقوا – أيام الامتحانات – في منازلهم فترتفع نسبة “التغشيش” وبالتالي نسبة النجاح في مدرسته.     

هناك – إذا – فارق كبير بين الظاهرة والكارثة والوباء، لقد اصبح الغش – مرة أخرى – وباء، يهدد الأمن القومي والوطن، فبناء الأوطان يبدأ من المقاعد الدراسية.

اما نتائج ذلك فحدث ولا حرج، يصل طالب الثانوي إلى الجامعة، ويحق له الإلتحاق بالكليات – حسب درجاته المتحصل عليها بالف طريقة وطريقة – او بمعنى أخر حسب أرقام قد يكون لا معنى لها، وهنا تبدأ كارثة جديدة، يعاني تداعياتها وخلفياتها وملابساتها، هذه المرة، عضو هيئة التدريس بالجامعة، والذي يتوقع أنه سيتعامل – أكاديميا – مع طالب أجتاز الثانوية بإستحقاق. لكن عضو هيئة التدريس سيكتشف حجم الكارثة الكارثة الكارثة، فتبدأ رحلة تعليم قاسية هي أقرب الى الترقيع منها إلى التعليم، معاناة بمعنى الكلمة، من جميع جوانب العملية التعليمية، والضحية – مرة أخرى- هو التلميذ وعضو هيئة التدريس والوطن، فالمخرجات ستتناسب مع المدخلات. 

ويزداد الألم الماً، إذا علمنا ان أغلب الطلبة الذين يمارسون الغش، هم على درجة عالية من الكفاءة، بل وقادرون على إجتياز أصعب الإمتحانات، وقادرون، بمجهوداتهم الذاتية، على المذاكرة والمراجعة والنجاح والتفوق والاجتهاد والإبداع، دون الحاجة إلى الغش. لكن التسيب والعبث والتهاون والاستهتار والإهمال، من جانب الكبار، هو من جعل الطلبة والتلاميذ يستسيغون ويستسهلون ويتقبلون ويمارسون الغش، فكما يقال إن “المال السايب يعلم السرقة”، فكذلك التهاون بل الخيانة من قبل الكبار يعلم تلاميذنا الغش ويشجعهم عليه. 

 طلابنا مستعدون للعمل، للجد، للتفوق، للعطاء، للابداع، للتنافس الإيجابي، للإجتهاد، أذا تم توجيههم تربوياً نحو ذلك. طلابنا مستعدون لكل ذلك، اذا سُدت في وجوههم – من طرفنا نحن الكبار – أبواب وسبل وطرق ووسائل وثغرات الغش.

وبمعنى آخر، نحن من دفع بابنائنا وبناتنا لممارسة الغش بهذا الكم المرعب الهائل، سهلنا ويسرنا وزينا لهم هذا الأمر. لم نخلق بينهم روح التنافس الإيجابي، لم نغرس فيهم قيم العمل وحب العمل وإتقان العمل، لم نغرس فيهم قيم التفوق والجدية والعطاء والاجتهاد والإبداع والابتكار. هم، وبكل اختصار، ضحايا، ضحايا تسيبنا وإهمالنا وتهاوننا، نحن – إذا – شركاء رئيسيين في الجريمة. 

بعد أكثر من ربع قرن، في مجال التربية والتعليم والتوجيه، عملت خلالها في مجال توجيه وتربية الشباب، وفي مجال التدريس بمختلف مراحله، الابتدائي والإعدادي والثانوي، وكعضو هيئة تدريس في جامعة طرابلس العريقة – بعد أكثر من ربع قرن – تعلمت أن أعظم معلم، هو من يستخرج طاقات وإبداعات وإمكانيات الطلبة والتلاميذ، ويحفزهم على تحدي أنفسهم، والتغلب على جوانب القصور والضعف والتردد والتقصير، ويغرس فيهم الثقة بالنفس، والإنتقال بهم إلى عالم الإبداع والتفوق والإتقان، بدلاً من أن يهبط بهم إلى عالم الغش والإتكالية والكسل والعبث والاستهتار.

مساعدة الطلبة على الغش، أو التهاون في هذا الأمر، أو التغاضي، أو التساهل فيه، لن تؤدي إلى تمكين التلميذ والطالب من توظيف وإستخراج وتطوير طاقاته ومقدراته وإمكاناته، بل ستؤدي إلى إغتياله علمياً، وستؤدي بالتالي الى اغتيال الوطن.

الحزم والصرامة والجدية، في هذا الجانب، والضغط الإيجابي، والتوجيه الصحيح، يدفع بالتلاميذ والطلبة، ليس فقط إلى ترك وكراهية ونبذ ومقت ومحاربة الغش، بل إلى التفوق. اللين والرحمة والمحبة والمساعدة، صفات رئيسة للمعلم الناجح الفعال، في جميع جوانب العملية التعليمية خاصة أثناء التعامل مع التلاميذ والطلاب، لكن – نفس المعلم الفعال –  يجب أن يرتدي جلباب الأمانة والعدل والحزم والجدية والصرامة في أمور الامتحانات. 

 لذلك، كوني معلمة طيبة ورحيمة ومحبوبة بين تلاميذك، ولكن كوني صارمة جادة “حرفا”، في أمور الامتحانات والاختبارات والواجبات والتقييم والتقويم والدرجات. عندها، ستدفعي بهم إلى نسيان ونبذ وكراهية الغش، فلن يفكروا بالغش في حصتك.

ليس ذلك فحسب، بل ستفتحي أمامهم أبواب الجد والمذاكرة والاجتهاد، وستدفعي بهم إلى اكتشاف إمكاناتهم ومقدراتهم وطاقاتهم ومواهبهم ورغباتهم العلمية، بل ستدفعي بهم إلى النجاح والتفوق والفلاح، وبذلك تقدمي خدمة سامية عظيمة جليلة لهم وللوطن.

أخجل أن اتحدث – حتى الآن – عن مسؤولية الطلبة فيما يتعلق بالغش، فلا جدوى من الحديث عن مسؤوليات الطالب والتلميذ، قبل أن يقوم الكبار (المعلمون والمعلمات والتربويون والاداريون وأولياء الأمور والمؤسسات التعليمية) بواجباتهم ومسؤولياتهم ودورهم، بعدها، وبعدها فقط، سأتحدث عن الطالب ودوره ومسؤولياته وأمانته العلمية، وحتى ذلك الحين علينا أن نجتث هذه الظاهرة من جذورها قبل أن يستفحل الوباء أكثر مما هو مستفحل، فنضطر إلى دفن التعليم في ليبيا إلى الأبد، وبالتالي دفن الوطن معه. والله ولي التوفيق.

 

د. فتحي علي الفاضلي

طرابلس- 7-06-2024م

مشاركة