الاستشهاد بأفكار وآراءِ ومواقفِ وأقوالِ المثقّفين والعلماء والمفكّرين والكتّاب والأدباءِ والشعراء من غير الليبيين، يكاد أن يُصبح سمةً من سمات المشهد الليبي، بالرغم ممّا تعُجّ به ليبيا من نُخَب مُبدِعة في جميع المجالات تقريبا.

وحتّى المثقّفُ الليبيُّ نفسُه، ما إن يستشهد بمرجع، قولاً أو نصاً، حتى تراه يقفز – دون أن يشعر -إلى ما قاله عالم أو مفكّرٌ أو كاتبٌ أو مصلحُ غيرُ ليبي. وما يَلفت النظرَ، هو أنّ ما نستشهد به من مصادرَ غيرِ ليبية، قد سبق فيه الليبيون، بل وتبحّروا وتعمّقوا فيه أحيانا، أو على الأقل على دراية جيّدة به، تؤهّلهم لأن يكونوا فيه مرجعا جيّدا موثوقا به.

وحتى الشخصيات التي نستضيفها في أغلب برامجنا ومقابلاتنا وحواراتنا المسموعة والمرئيّة تكون شخصيات ليبيةً، إذا كان الحديث حول أمور ليبية محليّة. لكنّنا نجد الضيف غيرَ ليبي، إذا كان الموضوع يتحدّث عن مجال فكري، أو تحليل لمسيرة الأمّة، أو نشأة تاريخية لمجال ما من مجالات الأدب والشعر، أو تطوّر الحركات السياسية عبر التاريخ، أو النظريات التربويّة، أو نهوض وسقوط الأمم، أو نشوء وظهور الحركات الإسلامية وتأثيره في واقع الأمّة، أو حول القصة والرواية والشعر الحرّ، أو حول الأدب العالمي، أو العلاقات الدولية، أو قضايا عالمية سياسية أو اجتماعية أو فكريّة أو علميّة،

و غير ذلك كثيرممّا “يفترض” أنه يتطلّب نُخبا “عالمية” غيرَ “ليبيّة”.

بعكس أغلب الشعوب والدّول الأخرى فمؤسساتها الإعلامية والتربوية والثقافية، تنبُع مرجعيّتها – في جميع المجالات المذكورة – في أغلب الأحوال من داخل بلادهم، يرفعون من شأن ومكانة وقدر نُخَبهم (كلٌّ في مجاله). لذلك صنعوا نُخَبا ومشاهير وفَرَضُوا وجودهم خارج نطاق حدودهم، نُخَبٌ يستشهد بها العالم لا يقلُّ الليبيون مكانة عنها، ولذلك نسمع عن المئات من أسماء لامعة في جميع المجالات لا نصيب لليبيين فيها. و نرى أيضا كتبا ومجلداتٍ ومقالاتٍ وبحوثا ودراساتٍ تنتهي بمئات المراجع، لا تجد فيها مرجعا ليبيّا واحدا بالرغم من توفّر ذلك.

 

ولا يعني هذا عدم الاستشهاد او الاستدلال أو الاستعانة بجهود وآراء غير الليبيين (في مواضعها)، ولكن تهميش المثقّف أو المفكّر أو العالم أو الداعية الليبي، لن يجعل من ليبيا مساهما أو مساندا أو مشاركا في حقول الثقافة والفكر والأدب والعلم، فيُحرَم العالمُ من روائعَ أنتجها ليبيون من جهة، وتهمّش النُّخبُ الليبية من جهة أخرى، وتتوقّف عجلة التجديد والتطوير والارتقاء بالمجالات الثقافية الليبية، ويصاب المجتمع (ثقافيا واجتماعيا) بالجمود من جهة أخرى.

فأفكار وآراء وإسهامات وفتاوى وبحوث النُّخَب الليبية وروائعُهم، ستظلُّ مسجونة في بطون الكتب، وفي الأرفف، لا تؤثّر في الواقع، ولا تؤثّر في إصلاح المجتمع أو تغييره، ولا تصنع رأياً، ولا فكراً جماعياً، طالما أنّنا لا نوظّفها ولا نستدلّ بها ولا ننشرها خارج حدودنا، ولا نشجّعها ولا نُبرزها، ولا نسقطها على واقعنا. إنتاج رائعٌ في جميع المجالات مُخزَّن وجامد لا حراك فيه، وكأنّ مهمة الكاتب او الشاعر أو العالم أو المثقّف تنتهي عند إنجاز عمله، بعدها يُدفن عمله في مقبرة الأرفف.

تساؤلات عديدة تفرض نفسها حول هذه الظاهرة…

فهل الشعوب هي من تصنع النُّخب خارج نطاق مجتمعاتها؟

أم أنّ النخب هي من تفرض نفسها على المشهد الإقليمي أو العالمي؟

هل أعمال أو إنتاج النُّخب هي من يجعل منها نخبا تجتاز حدودها المحلية؟

وما مدى مساهمة النخب الليبية في دفن النخب الليبية؟

هل استشهادي بكتابات وأقوال وأفكار ابن بلدي، يشعرني بالدونية، ويظهرني في صورة غير المثقّف؟

هل أنظر إلى المثقّف الليبي بعين الغيرة والمنافسة غير الإيجابية والمخالفة والتضادّ، وبالتالي لا أشير إليه أو إلى أعماله من كتب وشعر وفتاوى وأدب وبحوث؟

هل الدولة بمؤسساتها الإعلامية والسياسية والثقافية والاجتماعية والعلمية هي من يصنع النخب؟ أم أنّ الاثنين يكمّل بعضهما بعضا؟

وفي جميع الأحوال، ومهما كان سبب هذه الظاهرة المدمّرة الغريبة، فلا بدّ أن نتحرّر من شيء ما، يكبّلنا من الداخل، لعلّه نظرة دونيّة من بعضنا لبعض، لعلّه نظرة دونيّة لأنفسنا، لعلّه استسلام لتهميشٍ ذاتيِّ تطبّعنا عليه، لعلّه الإعجاب بالآخرين، لعلّه فقدان الثقة في أنفسنا، لعلّه تواضع زائف.

ومهما كان السبب، فلابدّ من تحطيم كلّ ذلك، كي نشجّع نُخَبَنا وندفعَ بهم عبر خلق بيئة رقيّ وتطوّر وتطوير لعالمنا الثقافيّ في جميع مجالاته، وسيساهم ذلك – بدون شكّ – في إصلاح مجتمعنا، ويساهم أيضا في صنع قدوة لأجيال جديدة من النّخب؛ فتنطلق هذه الأجيال إلى مراتبَ علمية وثقافية وفكرية أعلى، بل ونساهم – أيضا – في إصلاح العالم فكريّا واجتماعيّا عبر مشاركاتنا بأفكارنا وآرائنا وإسهاماتنا.

والله من وراء القصد.