قيام الحكم على التعاقد .. تأصيل شرعيّ

 

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لم يختلف العلماء في أنّ تقصير الحاكم في القيام بالواجبات المنوطة به تجاه الرعية ليس مسوغاً دائما وثابتا ومستمراً للخروج عليه ونزع يد الطاعة منه؛ إذْ إنّ التقصير وارد على الجميع، وأسبابه تتعدد ودرجاته تتفاوت، ويتفاوت معها تقدير كل فرد من أفراد الرعية؛ فلو جعلنا التقصير في أداء الحقوق والقيام بالواجبات سبباً دائما وثابتا ومستمرا للقيام على الحاكم وخلعه فلن يستقر للأمة حكم ولن تقوم لها دولة؛ لذلك جاءت أجوبة النبيّ صلى الله عليه وسلم على من سألوه مُغَلِّبَةً جانب الاستقرار على التغيير، كهذين الحديثين: عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ» وعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ»، ومثل هذا يقال في الحاكم إن فسق وظلم؛ إذ ليس كل فسق يجيز الخروج على الحاكم باتفاق الفقهاء؛ لذلك وردت أحاديث، مثل: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»».

غير أنّ هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث التي تأمر بالطاعة للحاكم وترك الخروج عليه والحرص على البيعة والجماعة، ومعها الأحاديث التي تأمر الحاكم بالعدل والرعاية والمسئولية؛ جميعها في مجال تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ حيث تحدد واجبات كل طرف من الطرفين وحقوقه، وحيث يستعمل كل نص منها في الحالة التي ورد لعلاجها وعلاج أمثالها وما يقاس عليها، ولا علاقة لها بقضية (ابتناء الحكم على أصل التعاقد)؛ فتلك قضية أخرى لها أدلتها الخاصة بها، والإشكال الذي يقع فيه الكثيرون هو الخلط بين النصوص؛ بما ينقل النص من مجاله الذي يعمل فيه إلى مجال آخر تنظمه نصوص أخرى.

ربما كان النص المشترك في أكثر من ميدان هو هاتان الآيتان من سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)) (النساء 58-59)، فالآية الأولى ذكرت أهم ما يجب على الحاكم تجاه رعيته ونبهت به على ما هو أدنى منه، والثانية ذكرت أهم ما يجب على الرعية تجاه الحاكم ونبهت به على ما هو أدنى منه، وختمت ببيان المرجعية والدستور الذي يعلو فوق الجميع وهو الكتاب والسنة وما ينبثق عنهما من شريعة وأحكام.

صحيح أنّ الآيتين ليس فيهما نص على علاقة تلازمية بين واجبات الحاكم وواجبات المحكوم؛ بحيث تتوقف إحداهما على الأخرى، أو يتوقف قيام أحد الطرفين بما عليه على قيام الطرف الآخر بما عليه، غير أنّ تحديد واجبات كل طرف من الطرفين بهذه المقابلة ثم النص على المرجعية العليا التي يتحاكم إليها الطرفان عند الاختلاف يفهم منه ببساطة وبلا تكلف أنّ هناك علاقة عقدية ونظام دستوريّ يتمتع بسيادة القانون الذي هو هنا شريعة الله، فالآيتان تؤسسان للعلاقة المتوازنة بين الحاكم ورعيته، ولأصل العلاقة بينهما وهي العلاقة العقدية، ولقيام نظام الحكم في الإسلام على مبدأ سيادة القانون (الشريعة) ومبدأ خضوع الدولة للقانون.

وقيام الدولة في الإسلام على التعاقد بين الحاكم والرعية أمر واضح غاية الوضوح، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بايع الأنصار عند العقبة بيعتين الأولى على الإسلام والثانية وقعت بعدها بعام على أمر آخر: على أن يمنعوه مما يمنعوا منه نساءهم وأولادهم وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل، وهذه الأمور هي موضوع الدولة والحكم، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ولم يوص لأحد بعده مع توفر الدواعي وانتفاء الموانع واتساع الظرف لذلك؛ وليس ذلك إلا ليمارس المسلمون سلطانهم في التولية، عبر البيعة التي هي عقد بين الحاكم والرعية، وأوصى في أحاديث كثيرة ألا يموت المسلم إلا وفي عنقه بيعة؛ لئلا يموت ميتة جاهلية، وقد أقام المسلمون في خير القرون دولتهم على ذلك، فكانت تولية أبي بكر عبر بيعتين بيعة خاصة في السقيفة وبيعة عامة في المسجد، ومضى الأمر على ذلك، وإن كانت البيعة قد تنوعت من خليفة لآخر؛ فإما أن تأتي البيعة من الأمة ابتداء كما وقع لأبي بكر وعليّ، وإمّا أن تأتي بعد ترشيح من الإمام السابق فيما سمي بالاستخلاف كما وقع مع عمر وعثمان، وعندما وقع الملك العضوض ظلّ هاجس المراقبة للأمة يطارد ملوك الإسلام الذين ورثوا الحكم لأبنائهم حتى إنهم كانوا يمررون التوريث عبر بيعة وإن كانت غير صحيحة، ولما وقعت الفتن واستحر القتل بالمسلمين وصار سيف المسلمين مسلولا على الأولياء مغمودا على الأعداء قال العلماء بوجوب السمع والطاعة لمن تغلب؛ حقنا للدماء، وذلك على سبيل الاستثناء، بشروط ليس موضعها.

ولقد همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصي؛ لكنه تراجع وترك الأمر للأمة، والترك بعد الهمّ يؤكد أنّ الترك مقصود، ويؤكد أن الهم كان على وجه التدبير والنصح وليس على وجه البلاغ والتشريع؛ وإلا لما تراجع عنه، والحديث صحيح بلا خلاف “لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ، أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ”، فوكل الأمر إلى قدر الله وقضائه، وتركه من جهة الأسباب إلى أصحاب الشأن وهم الأمة، والذي لا شك فيه أن رسول الله لم يستخلف، ولو كان قد استخلف لما اختلف الصحابة في السقيفة ولما دار بينهم ما دار من النقاش والحوار، ويؤكد هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: حين طلبوا منه أن يستخلف: «إِنْ أَسْـتَخْلِفْ، فَقَدِ اسْـتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ، مِنِّي أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ، فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، رَسُـولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم »، وما روي عن عائشة وقد سئلت: «مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُسْتَخْلِفًا، لَوِ اسْتَخْلَفَ ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا: مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا، مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ : أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»؛ فالسياق يدل على أنّه لم يستخلف.

وفعل الخلفاء الراشدين المهديين الذين دلنا الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض الشهير وغيره على وجوب اتباع سنتهم في الحكم، دليل عظيم يقويه ما ورد عنهم من أقوال، فهذا عمر رضي الله عنه عندما بلغه أن رجلا يريد أن يبايع لرجل من غير مشورة المسلمين قام فخطب خطبة طويلة قال في ختامه: «مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا»؛ فالمسلمون طرف العقد المقابل للحاكم ولا يصح العقد مع غياب أحد طرفيه، وهذا عليّ رضي الله عنه عندما بايعه خاصة لا يثق بتمثيلهم للأمة أحبة السلطان واعد الناس ثم خرج عليهم قائلاً: “يا أيها الناس عن ملاء وإذن؛ إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد“.

وعندما حضرت الوفاة أبا بكر رضي الله عنه أخذ يقرر المبدأ الكبير مبدأ قيام الحكم على عقد وعهد: «عن الحسن بن أبي الحسن قال: لما ثقل بأبي بكر رضوان الله تعالى عنه واستبان له من نفسه، جمع الناس فقال إنه قد نزل بي ما ترون ولا أظنني إلا لمأتي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم عليكم في حياة مني كان أجدر إلا تختلفوا بعدي»، بل إنّه أثناء خلافته أراد أن يستقيل لم يعط نفسه ولم يعطه أحد هذا الحق ما دام طرف العقد الآخر لم يوافق، يقول الجويني: وما روي أن أبابكر رضي الله عنه قال: أقيلوني فإني لست بخيركم، دليل على أن الإمام ليس له أن يستقل بنفسه انفراداً واستبداداً في الخلع، ولذلك سأل الإقالة، فقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك.

وهذا الأصل لم ينازع فيه العلماء، بل بنوا عليه تكييف العلاقة والتصرف فقالوا: “وتصرفه على الناس بطريق الوكالة لهم”، ومن منطلق العلاقة العقدية كانت سلطة الأمة ورقابتها عليه، يقول الإمام البغدادي: ومتى زاغ عن ذلك كانت الأمة عياراً عليه في العدول به من خطأه إلى صوابه، أو في العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع وزرائه وقضاته وعماله وسعاته، إن زاغوا عن سننه عدل بهم أو عدل عنهم.

ذلكم هو موضوع (ابتناء الإمامة والحكم على أصل التعاقد)، وثمّ موضوع آخر تابع له، ولكنه لا يلتبس به ولا يختلط معه، وهو موضوع (الواجبات التي هي محل التعاقد)، التي لا ينص عليها عادة في البيعة ولكنها مضمرة بالضرورة فيها، وهي التي يعدها البعض -على سبيل التساهل- تعريفا للإمامة، وهذه وردت فيها أقوال متقاربه للأمة رضوان الله عليهم، لكنها مسألة مختلفة عن السابقة.

يقول الإمام الجوينيّ: “الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا. مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين” ويقول الإمام الماوردي: «الأمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» ونفس الكلام -ولكن بشيء من التفصيل- لبدر الدين ابن جماعة: “ويجب نصب إمام بحراسة الدين، وسياسة أمور المسلمين، وكف أيدي المعتدين، وإنصاف المظلومين من الظالمين، ويأخذ الحقوق من مواقعها، ويضعها جمعا وصرفا في مواضعها، فإن بذلك صلاح البلاد وأمن العباد، وقطع مواد الفساد، لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم.”

ويقول الإمام ابن خلدون -مقارناً بين الخلافة والملك- يقول: “إن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغَرَض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأُخروية والدنيوية الراجعة إليها” وعلى نهج ابن خلدون يمضي ابن الأزرق ولكن بشيء من التفصيل: ” إن حقيقة هذا الوجوب الشرعي راجعة إلى النيابة عن الشارع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به ويسمى باعتبار هذه خلافة وإمامة وذلك لأن الدين هو المقصود في إيجاد الخلق لا الدنيا فقط فحملوا على حكمه دنيا وأخرى ونصب لذلك الخليفة نائبا عن صاحب الشرع ولا كذلك الملك الطبيعي وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة لجوره في ذلك وعدوانه وإفضائه إلى الهلاك العاجل سنة الله في الذين خلو من قبل ولا السياسي وهو حملهم على نهج النظر العقلي في جلب مصالح الدنيا ودرء مفاسدها فحسب لإهمال العناية بالدين واستضاءته فيما اقتصر عليه بغير نور الله {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}

فذانك موضوعان لا يلتبسان، الأول: قيام الإمامة على أصل التعاقد، والثاني: موضوع التعاقد أو محل العقد، أمّا الأحكام المترتبة على إخلال أحد طرفي العقد بما عليه فهذا موضوع ثالث وميدان واسع تنظمه جملة من النصوص والأحكام، سوف ننعطف إليه بعد قليل، أمّا قول القائل: “وإنما أقامها الشارع على العبودية لله والعهد بالطاعة في المعروف، وأناطها بباب: دفع المفاسد الكبرى والنظر إلى المآلات … وأنّ توصيف العلاقة هو أنها علاقة استمداد من الشارع من وجه ووكالة على الأمة من وجه آخر” فهذا سياق غاية في الركاكة! ولا معنى له ولا دليل عليه، إن هي جمل عامّة غير متماسكة، فأمّا إقامة الشرع لها على العبودية لله فمعلوم أنّ كل تصرف وعقد قائم على العبودية لله، فالبيع والنكاح والمضاربة وغيرها تصرفات قائمة على العبودية لله تعالى ولكنها مع ذلك عقود، والوفاء بالعقود وإمضاؤها على منهج الله هو العبودية لله تعالى، وأمّا الاستمداد من الشرع فجميع العقود مستمدة من الشرع بما في ذلك عقد الإمامة، وأمّا العهد بالطاعة في المعروف فهو جزء من موضوع ذلك العقد ..

فإن أخل الحاكم بواجباته أو زاغ وانحرف في حكمه؛ فذلك ميدان نظمته نصوص وأحكام، وقد تحدث العلماء في مسألة الخروج على الحاكم وفصلوا القول في الحلات المختلفة، وحصروها في ثلاث حالات اتفقوا في الحكم على حالتين واختلفوا في الثالثة، فأمَّا الحاكم العادل المقيم لكتاب الله، فقد أجمعوا أنّه لا يجوز الخروج عليه؛ وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء منهم النووي، ومستند الإجماع أحاديث كثيرة، منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية“.

أجمع العلماء على مشروعية الخروج على الحاكم إذا كفر أو ظهر في حكمه الكفر البواح وإن لم يكن كافراً، وقد نقل الإجماع غير واحد من العلماء منهم ابن حجر والنووي، وقد نص القاضي عياض على وجوب القيام على الحاكم إذا طرأ عليه كفر فقال في شرح حديث عبادة: “فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة -يعني بدعة مكفرة- خرج من حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه”، وقال ابن حجر: “ينعزل بالكفر إجماعاً فيجب على كل مسلم القيام في ذلك”، ومستند إجماع العلماء على هذا الحكم ما ورد في آخر حديث عبادة بن الصامت، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان“.

وأمّا الحاكم الفاسق أو الظالم فقد اختلفوا في الخروج عليه، فالجمهور على عدم الخروج وبعض العلماء قال بالخروج، وادعى البعض الإجماع على عدم الخروج وهو غير دقيق، والخلاف في هذا طويل وله تفاريع وتفاصيل، وأحسب أن التفريق بين الفسق الذي يخصه والفسق الذي يشيعه في المجتمع يمكن أن يسهم في تقريب المسافات بين المختلفين، والله تعالى أعلم.

كتبه: د. عطية عدلان

مشاركة