مواقف النظام الليبي من مذبحة أبو سليم تدفع بالليبيين إلى حمل السلاح، أو التقاضي لدى المحاكم الدولية.

النظام الليبي الفاشستي يتهرب من جريمة أبوسليم، فمن التعتيم، إلى التستر، إلى الإنكار، إلى الطمس، إلى التعويض، إلى التبرير، إلى محاولة هدم المعتقل، إلى التهديد والإرهاب والتخويف، إلى إثارة الفتن، ثم أخيرا إلى محاولة تسطيح القضية.


محاولات ساذجة صبيانية فاشلة، تنم عن نظرة دونية للناس، وتدل على الاستهزاء والسخرية بهم، بل وتدل على العبث والاستهتار بحياة ودماء وأرواح البشر، وكأن أولادنا من الحشرات أو الحيوانات، التي لا حقوق لها؛ بل إن للحيوان في الإسلام، وفي غير دين الإسلام، حقوقاً لم ينل منها أولادنا معشار معشارها، وهم من أشرف وأطهر وأنبل من أنجبت ليبيا، بل إن حذاء من أحذيتهم أشرف وأطهر من قادة النظام ومن تبعهم من إرهابيين وأذيال وجلادين.


فمن التعتيم على هذه المجزرة البشعة التي فاقت بشاعتها مذابح الفاشست بما حملته من جبن وخيانة وغدر وخسة ونذالة، إلى إنكار حدوثها أصلا، وكأن العالم يعيش في العصور المظلمة، أو ظلام الجاهلية، إلى محاولة التستر على أكابر المجرمين، وإلصاق الجريمة بغير آل البيت، إلى محاولة تبرير المجزرة، بتصريحات لينة خفيفة هينة، كمقولة “استخدام مفرط للقوة” ما كان ينبغي أن يحدث، أي: أن ما حدث هو سوء تصرف لا علاقة له بالقيادة العليا للبلاد، بل له علاقة بمسؤولي السجن فقط.


يصرحون بذلك دون خجل، بينما القاصي والداني يعلم أنها جريمة مخطط لها مقدما، مع سبق الإصرار والترصد، كما تم تنفيذها بتوقيت محسوب، بل حتى إجراءات ما بعد المجزرة من تنظيف جدران وأرضية المعتقل من الدماء، والتخلص من الجثث، كانت جاهزة من الألف إلى الياء.


انتقل النظام بعد ذلك إلى تبرير ساذج آخر لا يمكن أن نعبر عنه إلا بحديث الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول في جزء منه: “… إذا لم تستح فاصنع ما شئت”؛ ولأن النظام وقادة النظام لا يستحون، فقد اتهموا الضحايا بأنهم السبب وراء مجزرة أبوسليم، وذلك عبر تمرد وهمي، بينما لا حول ولا قوة ولا سلاح لهم؛ بل ومحاطين بمعسكرات وجنود مدججين بسلاح يكفي لتحرير القدس.


وهكذا، لا يكفي فقط أن يُذبح الإنسان في بلادنا ظلما وعدوانا وغدرا؛ بل ويُتهم بعد ذبحه، بأنه صنع موته بيديه، فالمواطن الليبي مدان قبل أن يولد، ومدان بعد أن يولد، ومدان بعد أن يموت، إنه وبكل بساطة، مدان إلى أن تثبت إدانته؛ حتى لو كان بريئا.


جرب النظام بعد ذلك تبرير جريمته بجريمة أخرى، عبر الادعاء بأن الضحايا قاموا بقتل مئات من الحراس، في صدام قتالي بينهم وبين حراس المعتقل، وغني عن القول أن مجرد الخوض في دحض هذا الخيال هو عبث ومضيعة للوقت والفكر والجهد.


بل حتى لو صح ذلك، فلن يغير من الأمر شيئا؛ بل سيزيد من ضحايا هذه المذبحة من الليبيين، ولن يزيد النظام إلا تورطا؛ فالجريمة تمت تحت سمع وبصر قادته ومؤسساته الأمنية والاستبدادية والاستخباراتية، بل إن صح ذلك فلن يزيدنا إلا تأكيدا على ضرورة إسقاط هذا النظام حتى لو تدخلت هيئة الأمم في ذلك؛ لأنه غير قادر على إدارة البلاد والحفاظ على أمن وأمان وأرواح البشر.


اتجه النظام بعد ذلك إلى تسطيح القضية عبر خطوات أكثر سذاجة مما سبق، كتوفير تعويضات تافهة مصحوبة بترهيب وترغيب وتنازل على حق الدم (خوفا من تدخل أطراف خارجية محايدة مستقبلا). ثم ظهرت إشارات تدعو إلى هدم معتقل أبو سليم، وذلك لطمس آثار الجريمة على غرار ما فعله النظام بأراضي معسكر السابع من أبريل (باستيل بنغازي) الذي تواتر بقوة أنها بيعت قطعة قطعة.


وربما أدرك النظام أن هذه الخطوة أي هدم المعتقل قد تعتبر – لدى المجتمع الدولي – محاولة لطمس الجريمة وإخفاء آثارها، بل تعتبر دليل إدانة ضد النظام، وربما تراجع النظام عن هذه الخطوة مؤقتا، خاصة وأن القضية موثقة من جميع جوانبها بالصور والأسماء والنصوص والتواريخ، بما في ذلك معتقل أبوسليم نفسه بمداخله ومخارجه وردهاته وأسطحه وزنزاناته.


ثم اتجه النظام إلى خطوة أخرى تهدف إلى الانحراف بالقضية عن مسارها الأصلي، عبر إقحام الليبيين – بما فيهم أهالي الضحايا – في معارك جانبية عبر إثارة النعرات والخصومات الفردية، في تمثيلية ساذجة، تنم – مرة أخرى – على نظرة النظام الدونية لشعبنا، ونظرته الدونية لآلامنا ومعاناتنا، واحتقاره لقضايانا المصيرية بصفة عامة.


وهكذا، جرب النظام الفاشستي في ليبيا ما يحلو له من محاولات لا تدل في الواقع إلا على التهرب من المسؤولية، والإصرار على حماية القاتل الحقيقي، والتستر عليه، بل وتعتبر جميع هذه المحولات من أقوى الأدلة على أن علية القوم هم الذين قاموا بالمذبحة، وما زال النظام حتى يومنا هذا يحاول بكل ما أوتي من جهد أن يطمس معالم هذه الجريمة، أو يسطحها، أو يخفيها، أو ينحرف بها عن مسارها الأصلي

ولابد أن يُدرك النظام بأن ضحايا هذه المجزرة هم أبناء للوطن بأكمله، لا أبناء أهاليهم فقط؛ ولذلك يعتبر أبناء الوطن جميعهم “أهالي للضحايا”، وأن يُدرك أيضا، أننا نؤمن بأن كل إنسان قُتل في هذه المذبحة، تقع مسؤولية قتله على النظام؛ لأن النظام عجز عن إدارة البلاد.

كما نؤمن إيمانا راسخا أن هذه الجريمة هي جريمة مقصودة ومدبرة مع سبق الإصرار والترصد، وأن حكم الإعدام على شباب ليبيا، وفلذات أكباد الوطن قد أصدره معمر، عندما صرح علنا “أن على الأهالي أن ينسوا أولادهم في المعتقلات فهم كمن أصيب بالإيدز أو بالسرطان، وهذا التصريح موثق ومسجل صوت وصورة، كما أننا نؤمن إيمانا صادقا بأن القتلة وأكابر المجرمين الذين أمروا بتنفيذ الجريمة والذين نفذوها معروفين بالاسم
.

ونؤمن إيمانا راسخا وموثقا بأنه لا دخل لضحايا مذبحة أبوسليم بأية ضحية من الأمن أو الشرطة أو المدنيين، ويمكن إثبات ذلك بأسهل وأسرع ما يمكن، ونؤمن كذلك إيمانا قاطعا بأن مواقف النظام الليبي من مجزرة أبوسليم، والطريقة التي يتعامل بها مع هذه القضية، بما في ذلك المماطلة والتسطيح والتستر والطمس والتخويف، كل ذلك سيعطي لليبيين الحق في حمل السلاح ضد النظام، أو الحق في التقاضي لدى المحاكم الدولية، من أجل انتزاع حقوقهم المشروعة.


ويمكن لأهالي الضحايا أن يعطوا فترة زمنية معينة للنظام للاستجابة لمطالبهم المشروعة، يمكنهم بعدها، إن لم يستجب لمطالبهم أن ينتزعوا حقوقهم بأية طريقة ممكنة، ولن يلومهم أحد على ذلك، فالقصاص مطلب ديني وطني عادل، وهم لا يريدون أكثر من حقوقهم المشروعة المعترف بها في جميع دساتير وأعراف وقوانين وأديان العالم بدون استثناء.


وأود في هذا الموقف أن أحيي أهالي الضحايا، خاصة النساء والأطفال والشباب والرجال الذين يتظاهرون مطالبين بحقوق الضحايا، وكل من يقف معهم، وأقول لهم إنكم تصنعون التاريخ وتقهرون الطغاة وتغرسون الأمل في الأمة بأكملها، وتمهدون الطريق لمستقبل أفضل لأجيال قادمة، وتمهدون الطريق أيضا لإحقاق الحق وترسيخ العدل والحرية والمساواة عبر المطالبة بالقصاص العادل من المجرمين، كبيرهم وصغيرهم، فواصلوا مسيرتكم ولا تلتفتوا إلى صغائر الأمور، ولا تمكنوهم من تسطيح قضيتنا الوطنية العادلة، أو الانحراف بها عن مسارها الأصلي، والله ولي التوفيق.


د. فتحي الفاضلي
كتبت في شيكاغو – في 25 أبريل 2010م.