الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حَتْمًا سَتَمُرُّ هذه الأزمة على أمريكا، وحتما سيخرج ترامب من البيض الأبيض مذموما مخذولا، وحتما ستعود الحياة السياسية في أروقة السياسة الأمريكية ومؤسساته العظمى إلى مجراها الطبيعيّ؛ ليس لأنّ الديمقراطية قادرة على حماية نفسها، ولا لأنّها لا تُهزم ولا تَموت، ولكن لسبب واحد هو أنّ دولة المؤسسات عمرها أطول، وقدرتها على مقاومة عوامل الموت أكبر، أمّا الموت والأجل ذاته فأمر يمضي على سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول.
إنّ ما يُحمد في أمريكا ويُعْزَى إليه قوتُها وصمودُها هو تلك المؤسسات وذلك المنهج المؤسسي، لولاهما لخربت من زمن بعيد؛ فإنّ عوامل السقوط والانهيار تمخر في جسدها من يوم نشأتها، من عنصرية وطبقية، وانحلال أخلاقيّ وتفكك أسريّ، وهيمنة للرأسمالية ولمجموعات الضغط المنتفعة على السياسيين، وغير ذلك من الأسباب التي يسهل معها انهيار دولة مكونة من ولايات شتى وعرقيات مختلفة ومشارب ومذاهب متفاوتة.
أمّا سقوط الإمبراطورية الأمريكية وذهاب هيمنتها فهو أمر حتميّ وقريب جد قريب، ودلالات ذلك واضحة في الأحداث الأخيرة؛ فإنّ ترامب ما كان له أن يصنع ما صنع لولا أنّ وراءه قطاع عريض يؤيده في كل هذا الخرف، وعندما نجد رئيسا لبلد كأمريكا بهذا المستوى من الفهم والإدراك والتعامل مع المواقف والتعاطي مع الأحداث ينتخبة أكثر من 70 مليونا، أغلبهم يؤمن بمزاعمه الخرقاء الحمقاء إيمانا عميقا؛ فهذا يعني أنّ الوعي الأمريكيّ الذي يعد الحارس الأول للديمقراطية والحريات في حالة أفول.
لقد أدرك الشعب الأمريكي بعد فوات الأوان أنّ اتجاه اليمين المحافظ الذي يحتضنه الحزب الجمهوريّ يشكل ضررا وخطرا على الديمقراطية، لقد شهد الأمريكيون في ظلال حكم الجمهوريين تراجعات كبيرة على مستوى الحريات والعدالة الاجتماعية، وعلى مستوى حقوق الإنسان كذلك، بل وشهدوا وشاهدوا القوانين المقيدة للحريات والمحفزة لتغول الأجهزة الأمنية في حياة الناس كيف يتم صنعها وتمريرها رغم أنف الديمقراطية ومؤسساتها، وهذا له بالغ الأثر في المرحلة المقبلة.
فالمتوقع أن يتراجع الحزب الجمهوريّ في أدائه بشكل كبير، هذا إن لم يحدث فيه انقسام على أثر الأحداث المزلزلة التي شهدتها الأيام الأخيرة، وهذا ما سوف يترتب عليه بمرور الوقت تحول السياسة الأمريكية إلى سياسة الحزب الواحد، وتتلاشى في الحياة السياسية ظاهرة تداول السلطة التي هي أكبر مظهر للحياة الديمقراطية وأكبر ضمانة لعدم الانزلاق عن طريق التداول السلمي للسلطة، وعلى الجانب الآخر سوف يتحول اليمين الذي كان ينافس على السلطة لينفذ من خلالها أجنداته السياسية ذات الأيديولوجية اليمينية المتطرفة؛ سيتحول إلى مسار آخر ينفس فيه طاقته التنافسية، وسيظهر بمرور الوقت حركات تدعو للتغيير العنيف وسنجد الشعب الأمريكي بحاجة إلى تعريف دقيق لمصطلح (الإرهاب)!
إنّ الحزب الجمهوريّ بتراخيه تجاه التصرفات الرعناء من دونالد ترامب، وبدفنه رأسه في رمال السلبية؛ قد ذبح مستقبله السياسيّ من الوريد إلى الوريد، وفي اللحظة التي سيدرك فيها أنّ ترامب و(شلّته) قد أوردوا الحزب موارد الهلكة – وإنّها لقريبة – فلن يصمد الحزب أمام موجات التفكك والاندثار إلا بقدر ما يصمد الدهان لبناء ضخم شاخت قوائمه ونخر الصدأ في أصوله ودعائمه، وسيبقى الحزب الديمقراطيّ متماسكا بفعل الثقة التي اكتسبها عند قطاع عريض من الشعب الذي بات يرى الحزب الجمهوريّ خطرا على بناية جورج واشنطن وإخوانه من الآباء المؤسسين؛ وهذا بمرور وقت ليس بالطويل سيورث المتطرفين يأساً من أن يكون لهم حظ في الحكم ولا نصيب في السيادة؛ وهذا هو أسُّ الخراب في مجتمع تعدديّ على كل المستويات والأصعدة: الجغرافية والعرقية والأيديولوجية.
إنّ ما جرى ليس الانهيار، وإنّما هو إرهاصاته وبوادره، لقد استبان للعالم كله أنّ الشعب الأمريكيّ بدأ يتشكك في جدوى الديمقراطية نفسها، بعد أن صارت لديه ثقافة لا دافع لهيمنتها عن مدى سيطرة الرأسمالية على العملية الديمقراطية، ليس سهلا أن يتشكك في نتائج الانتخابات ما يقارب نصف المجتمع الأمريكي، ليس سهلا أن تحل هذه الريبة من كل المؤسسات القانونية التي ظلت على مدى القرنين من الزمان تحظى بالثقة المتزايدة من الشعب، إنّ هذا التراجع في الثقة لهو الخطر الحقيقيّ على النظام الديمقراطيّ نفسه، هذه الحالة سوف تولد حالة من القبول بأفكار جديدة تتغلغل إلى الضمير الأمريكيّ وتهزّ قناعاته، وهذا بلا ريب عامل كبير من العوامل التي تقرب النهاية.
ومن المتوقع أن تخف قبضة أمريكا وقدرتها واستعدادها للدخول في صراعات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من مناطق الصراع في العالم؛ بسبب رغبة الحزب الديمقراطيّ في توجيه الضربة القاضية للجمهوريين بالتماهي مع رغبة الشعب الأمريكيّ في الاهتمام بالشأن الداخليّ وتقليص الأعباء الخارجية والتقليل من الإنفاق على الجيش وعلى عملياته الخارجية، وهذا سيكون له أثره الكبير على المنطقة التي عاشت دهرا طويلا تعاني من تكالب الأعداء وتخلي الأنصار والأولياء، ومن المتوقع أن يفتح هذا المنهج الطريق أمام تقاربات في المنطقة العربية والإسلامية في ظل صعود بعض القوى الإسلامية الموثوقة.
إنّ أمريكا ليست استثناء من الأمم التي جرى عليها القانون الذي لا يحابي ولا يجامل، إنّها كسائر الحضارات التي ولدت ثم شبت ثم أصابها الهرم وأكلتها الشيخوخة، وإنّ سنة الله لا تتغير ولا تتبدل، والأيام دول: (وتلك الأيام نداولها بين الناس).