قرأنا في فقة المواجهة أن الحجاج طاغية العراق خير العالم سعيد بن جبير قائلاً: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟ فقال اختر أنت لنفسك، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الأخرة.

فقال الحجاج : أتريد أن أعفو عنك؟ فقال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.

فقال الحجاج: سأجعل دنياك ناراً تلظى، فقال سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً، فقال الحجاج سائلاً: ما تقول في؟ قال أقول فيك أنك من أعداء الله في الأرض، تنتهك المحارم وتقتل بالظنة.

قال: فما تقول فى أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان، قال: أقول أنه أعظم جرماً منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه.

علماءنا الأفاضل..

هذا نموذج من مئات النماذج، من حوارات دارت بين العلماء (العلماء) وولاة الأمر في الماضي، قرأناها حين كنا نختلس بعض الوقت أثناء محاضراتكم عن طاعة ولي الأمر.

أما اليوم فقد استبيحت أمتنا من الشرق والغرب، ومن فوقها ومن أسفل منها، ولم نسمع لكم آهة واحدة، بل علمتمونا أن الصمت من أهم “المصالح المرسلة”، فسكتم وأسكتمونا عن كل شيء إلا عما يجب أن نتحدث عنه، فأصبحنا كماً أجوفا وعالة على باقي الأمم التي لا زالت تنتظر جحافل الفاتحين، وعلى رأسهم علماؤنا الأفاضل.

ثم حصرتم آيات الله بين مهاراتي الحفظ والنسيان، فأنسيتمونا فقه العزة، وحفظتمونا فقه الذل. وخلطتم بين الصبر والاستسلام، وفاتكم أن الصبر في سجون الطغاة، ومواقع المواجهة، يسمى صبراً، أما الصبر في القصور والبساتين والمكاتب وبين أعمدة المساجد فيسمى خنوعاً وذلاً واستسلاماً.

غلبت عليكم ثقافة التقليد والجمود، وانعدمت عندكم ثقافة الإبداع والتجديد، وفضلتم أن تكونوا في مواقع التوجيه، لا المواجهة، وعجزتم عن توقع الأحداث والاستعداد لها، واكتفيتم بسطحية تحليلها، ثم غمرتكم الفرحة ونشوة الانتصار والرضا على الذات، كلما وافقت تحليلاتكم واقعنا، حتى لو كان هذا الواقع مدعاة للخجل.

ليس ذلك فقط: بل حصرتم ثقافتنا فى باب الشعائر التعبدية والأحوال الشخصية، فترعرعنا بدون مخالب، فى زمن يؤكل فيه من لا مخلب له، فكان أن جاس العدو فى ديارنا مليون مرة ومرة، واغْتُصِبت نساء المسلمين، هنا وهناك، وذُبح شبابنا، وأُخذ أطفالنا بضاعة جاهزة، وكنتم في كل مجزرة بعد مجزرة، تُصلون على الضحايا، وتُنهون صلاتكم بالدعاء على العدو بالموت الزوام، والدعاء لولي الأمر بطول البقاء والدوام.

التهيتم فى ترقيع الخروق، كلما جد خرق، ولم تفكروا في استبدال الثوب أو تغييره، فأبدعتم فى رتق الخروق، حتى وصلنا إلى زمن الهزيمة المركبة، فامتلأت جدران شوارعنا ولوحات مساجدنا بصور المؤمنات المغتصبات والأمهات الثكالى والأطفال المشوهين، نستجدي بصورهم فضلات الملوك والأمراء أطال الله بقاءهم.

لم تكتفوا بهذا فحسب، بل أردتم أن تسجنوا عقولنا فى الماضي، حتى لا نرى حاضرنا، فاقحمتمونا في صراع الخوارج والقرامطة والشيعة والرافضة، وغيرها من صراعات وهمية، تبررون بها ذلكم وخنوعكم وعبوديتكم لولي أمركم، وتغاضيتم عن صراعات الحاضر، إرضاء لشلة من الفسقة العملاء الخونة الجبناء، ممن أسميتموهم ولاة الأمر.

وكلما استيقظنا من تخدير الماضي، حدثتمونا عن النجاسة، ثم أعقبتموها كالعادة بتذكيرنا بآيات الطاعة والولاء لسلاطين البلاط، ثم أغرقتمونا في تراتيل وهمية حتى ذبحنا فراعنة اليوم واحداً بعد الآخر.

فعلتم كل ذلك وغضضتم الطرف عن صمود أحمد بن حنبل ومواجهات العز بن عبدالسلام وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وسيد قطب وغيرهم من قمم المواجهة عبر خمسة عشر قرنا.

أنسيتم أم تناسيتم؟ أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عندما سأله وفد قدم إليه من الكوفة: هل دم البعوض ينجس الثوب؟ فأجاب قائلا: أتقتلون ابن بنت رسول الله (الحسين رضي الله عنه) وتسألون عن دم البعوض ينجس الثوب أم لا ينجسه؟

وأنتم يا علماءنا الكرام، أترون كل هذه النكبات التي تمر بها أمتنا في هذا العصر الأسود وتحدثوننا عن صراع الإسماعيلية والقرامطة؟ وترون كل هذه المذابح وكل هذه النكسات وتسمعون صراخ المغتصبات ثم تحدثوننا عن وجوب تقصير الثوب وطاعة الأمير؟

علماءنا الكرام..

أما علمتم.. أما سمعتم.. أن سمية قد اُستشهدت ملايين المرات؟ وأن الحسين قُتل مليون مرة ومرة؟ وما زلتم.. مع ذلك.. منقسمين فريقين، فريق يقسم أن دم البعوض ينجس الثوب، والآخر يقسم أن دم البعوض لا ينجس الثوب؟ بينما دماء المؤمنات المغتصبات تنتظر فتاويكم.

علماءنا.. أطال الله بقائكم..

اخلعو هبات السلاطين، وارتدوا جبة ابن جبير، وإلا فلن يقبل لكم التاريخ عذراً، وإن قبل لكم التاريخ عذراً، فلن يقبل لكم الضحايا عذراً، ولن يقبل لكم شرف المغتصبات عذراً، وستعلمون يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً أي منقلب ستنقلبون.

فتحي الفاضلي – طرابلس 18-03-2024م.

نشرتها أول مرة في سبتمبر 2000م.

مشاركة