من أجل أن تورث كلماتنا الحرية…
لا نحني هاماتنا إلا لقيوم السماوات والأرض. .. تلك أعلى طبقات الحرية.
لكن الحر لا يطيق أن يستمتع بالحرية بينما يتجرع غيره مرارة الاستعباد… بل لا يطيق أن يُستعبد الناس أو يَستعبدهم.. فاقتناص الحرية.. إذاً.. واستخلاصها واكتسابها وتدأولها وورأثتها وتوريثها جزء من الحرية نفسها.
ولأن الكلمة جسرُ، تعبر عليه معاني الحرية من الأحرار إلى العبيد… ومن المؤمنين إلى الطواغيت… ومن المظلومين إلى الظالمين… ومن الضحايا إلى الجلادين… ومن السجناء إلى السجَّانين… ومن المضطهَدين إلى المضطهِدين… بل حتى من المؤمنين إلى المؤمنين… فلابد أن تَنطلق الكلمة… حرة لا يكبلها قيد ولا يطمسها رمز… ولا يكتنفها غموض… فكما أن طعم الحرية لا يقبل أن يلوثه مذاق الذل… فكذلك معاني الحرية لا تَقبل أن تُفسر بحروف باهتة مترددة غامضة.
وستعجز الكلمة.. إذا فَقدت حريتها… عن حمل معاني الحرية… ففاقد الشيء لا يُعطيه.. ولا يدل عليه… ولا يتنبأ به… ولا يشير إليه. فالكلمة الحرة ستورث الحرية… والكلمة المكبلة ستتحول إلى استعطاف واستجداء واسترحام… والذي لا يستطيع أن يحرر كلماته… سيعجز حتماً عن تحرير غيره… بل سيعجز حتى عن تحرير نفسه.
ولكي تورث الحرية… يجب أن تكون الكلمة… صادقة واضحة صافية… حتى بين مسلم و آخر… فمن لا يصدع بكلمة حق في وجه مؤمن… يتزاحم معه على مساواة الصفوف وسد الفرج ومحاذاة المنكبين ويستهم معه على الصدع بالنداء والصف الأول… فلن يفعل ذلك مع من يرى أنه ربنا الأعلى… وأنه يحيي و يميت.. وأن لا إله للناس غيره.
والمؤمن الذي يتردد في أن يهمس بحرف صدق في أذُن مؤمن آخر.. سيموت ألف مرة قبل أن يهمس بذلك لطاغية ظالم ومتكبر جائر… وإذا لم تجد الكلمة… طريقها من مؤمن إلى آخر.. فلن تجد إلى أي هدف آخر طريقها.
والكلمة الصادقة عزيزة النفس كالصقر… تفضل مليون مرة أن تُقذف من قلوب الأحرار حية يصاحبها ويحيط بها الصدق والغضب… على أن تخرج من أفواه الجبناء كفحيح أفعى ميتة مصلوبة على أعمدة التزلف والنفاق والتملق.
وإذا غُلفت كلمة الحق ببعض من نفاق وشيء من مداهنة وقليل من مجاملة فستهرم قبل أن تصل إلى مرماها. بل ستكون.. إذا وصلت.. خجولة ذابلة.. مطأطئة خاملة.. مستأذنة خائفة… فتصل إلى آذان الطغاة كرَنِين أقرب للمديح من أي شيء آخر. ولن يفرق الطغاة بينها وبين الإطراء الرخيص والاستجداء الأرخص. وسيطربون لها.. بل ستسري في أرواحهم نشوة استعلاء يزدادون بها عشقا لاستعباد البشر.
فلا تغتالوا الكلمة…
ودعوها تنطلق حرة كالصقر علَّها تنقض على فريسةٍ ظالمة فتمزقها. واقذفوها كسهام ابن رواحة علَّها تخترق صدرَ باطلٍ فتدمغه.. وأرسلوها كصواعق ابن عامر علّها تصيب موقعَ ظلم فتحرقه. واصدعوا بها قوية صادقة.. طيبة صافية.. مُدوية واضحة.. علَّها تدمر بقايا استعلاءٍ وتسلطٍ وغرور وتكبر وتمكن من صدور المتألِّهين على هذه الأرض.
فتحي الفاضلي
طرابلس- 18-11-2020