يتحدث مئات الأئمة والشيوخ والمثقَّفين والعلماء والنشطاء والنُّخب والفقهاء، عبر كمّ هائلٍ من الفضائيات والصحف والمجلاتِ والمنابرِ والإذاعات، ووسائل إعلامية أخرى، الإلكترونية منها وغيرِ الإلكترونية، يُلقون ويبثون – عبر تلك المنابر الإعلامية – الخطب والمواعظ واللقاءات، والدروس والحلقات والحوارات والندوات بالإضافة إلى المحاضرات المكثفة.

مساحة كبيرة من المنابر الإعلامية والثقافية والتعليمية يحتلها الحديثُ عن العقيدة والتوحيد والإيمان، وسيرةِ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة الكرام، وحفظِ وترتيل القرآن الكريم والتفسير، والحديث النبوي الشريف، والنصح والوعظ والإرشاد، وتزكية النفس، والدعوة، والدعاء، والسلوك والأخلاق، والآداب، والأناشيد والرُّوحانيات والجهاد، والتاريخ الإسلامي والمعاملات، والعبادات بصفة عامة.

بالإضافة إلى لقاءاتٍ وبرامجَ ومحاضراتٍ تُروِّج فيها مختلِفُ التيارات الإسلامية لفِكرها ورؤاها وأهدافها وتطلُّعاتها في منهجية التمكين لهذا الدِّين، كلٌّ حَسَب مدرسته، ولا شك أنَّ في كل ما ذكرناه الخير، والخير الكثير، فكلُّ ما له علاقة برسالة الإسلام مقدَّس، بداية من إزالة الأذى عن الطريق إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وما بينهما.

لكن هناك خطاب إسلامي مُهمٌّ مفصلي حساس، مطموس – هذا الخطاب – غائب أو مغيب أو مفقود، يتمحور – هذا الخطاب – حول بناء الإنسان المتفوِّق المُنتِج الطَّموح المبدع، المدرك لدوره تُجاه مجتمعه ووطنه وأُمَّته، والمدرِك لمواقع القوة ومصادر التأثير، ذو الهمة العالية، الذي يعشق العمل، بل يعشق إتقان العمل، الإنسان ذو النفس التوَّاقة الذي يطمح إلى التميُّز والعزِّة والرِّيادة والسِّيادة.

الإنسان المستقلُّ التفكير ذو العقل الناقد (غير المقلِّد أو التابع) والمبادر الذي يستطيع أن يتَّخذ قراراته، ويصنع آراءه دون أن يوجِّهه أو يوظِّفه أو يستغلَّه أويؤثِّر عليه كلُّ من هبَّ ودبَّ، بل ويستطيع أن يقدِّم المبادَرات والحلول والاقتراحات دون تردُّد أو تحفُّظ أو خوف، وأن يمارس كل ذلك بثقة عالية، مستمَدَّة من الثقة بالله أوَّلا، ومستمدة من حاجة الأمَّة ثانيا.

الإنسان المسلم المؤمن بالمشاركة في بناء المَدَنيَّة والحضارة الإنسانية، القادر على بناء جسور التواصل والتفاهم والحوار، والقابل والقادر على التحدِّي والتنافس الإيجابي والعمل والتفكير الجماعي، الإنسان الذي يحترم ثقافة الآخر، ويدرك طبيعة العلاقات بين الشعوب، ويحس – في نفس الوقت – بالغَيْرة تُجاه عقيدة أمَّته أولا، ثمَّ تُجاه عاداته وتقاليده وأعرافه.

الإنسان المناصر للمظلوم، والداعم لحقوق البشر، الذي يؤمن بحرية الكلمة وحرية الرأي والتعبير، الإنسان المسلم الذي يعشق الحرية ويؤمن بأنها هِبة من الله سبحانه وتعالى وليست مِنَّة من أحد، الإنسان الذي يُشارك في صناعة التاريخ، مقابل الإنسان السلبي الذي يكتفي بمُشاهدة البشر وهم يصنعون التاريخ.

العناصر الكفيلة بإخراج أو خَلق أو إيجاد أو تربيةِ مثل هذه الشخصية غائبةٌ عن الخطاب الإسلامي الحالي، وغائبةٌ من صوت العلماء والفقهاء والأئمة والمثقَّفين والنشطاء الإسلاميِّين المخلِصين، وذلك بالرغم من أن النصوص القطعيةَ الدلالة بما في ذلك بالطبع آيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة الشريفة، بالإضافة إلى مصادر ومنابع الثقافة، والتاريخ، والتراث الإسلامي، تعج بالعناصر والتوجهات والنماذج التي تكفل وتضمن بناء مثل هذه الشخصية، في كل زمان وعصر ومكان، مع جزء محدود من التجديد والتحديث والإضافة والمعاصَرة والتعديل.

نحن – إذا – أمام غياب خطاب إسلامي حيوي معاصر، يمهد لبناء الإنسان الذي يَحمل صفات وخصائص ومهارات تُناسب ما تَمرُّ به الأمَّة من تراجع أمام حضارات أخرى، وتُناسب ما تَمرُّ به الأمَّة من قضايا وتحدِّيات وعوائق ومشاكل وصعوبات، الإنسان المناسب لعصره، عصر التنافس والتنوع والتفوق والإنتاج.

ومما يزيد الطين طينا، أنَّ هذا الغيابَ يصاحبه – وللأسف – هيمنةُ صوتِ الدفاع، والتبرير، والتراجع، والمداهنة والتعليل، والاعتذار، كرَدِّ فِعل على الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين، أو ما يُعرف بالإسلاموفوبيا. لقد أضاف هذا الصوت (صوت التبرير والدفاع) إلى ضَعفنا، ضَعفا مضاعَفا.

ما تمر به الأمة يحتاج – إذا- إلى إبراز هذا الخطابِ المفقود الكفيل بإيجاد الجيل القادرِ على مواجهةٍ شاملة لمشاكل وقضايا وتَحدِّيات العصر، جيل – مَرَّةً أخرى- مبدعٌ، متحرِّكٌ، متفوقٌ، مشارِكٌ، حيويٌّ، ذو هِمَّة عالية وفَعَّالة.

ولعلَّ ما قد يحفِّزنا جميعا، أنَّ الذين يحاربون الإسلام – متمثِّلين في ما لا حصرَ له من الدول والأنظمة والحكومات والتوجُّهات والأفكار والمجتمعات والأفراد، لا يحاربونه بسبب الفقه أو الوعظ أو العبادات، أو لأنه يدعو إلى الصلاة والزكاة والصدقة والحجِّ وحُسنِ السِّيرة والخُلُق والسُّلوك والآداب، ومثل هذه الجوانب، هم يحاربون الإسلام؛ لأنه يحتوي على العناصر الكفيلة بخَلقِ الجيل الذي تحدثنا عنه، الجيل المتحرِّك المُنتِج الفعَّال في مجتمعه.

تربية مثل هذا الجيل، ليست من الأهداف المستحيلة، بالنسبة لشيوخنا وعلمائنا وأئمتنا وفقهائنا ومثقَّفينا والنشطاء والنُّخب المخلصين والتربويين، وبالتأكيد لا نتحدث عن علماء السُّلطان أو المدارس الإسلاميَّة التي يُغيّبُ منتسبوها – قصدا – الصوت المفقود، وبالتالي الجيل المفقود، يغيبون ذلك ضمن مَنهجيَّة مدروسة مُبيَّتة مقصودة، لا نتحدث – هنا – عن أمثال هؤلاء، بل نتحدث – مرة أخرى –عن الشريحة المخلصة في وطننا من التربويين والمثقفين والمفكرين والعلماء.

وعلى سبيل المثال، ما الذي جعل رجلا مثلَ عبد الله بن أُمِّ مكتوم (رضي الله عنه) وقد بلغ من العُمر عُتِيا، لا يملك حماية ولا سَندا في مكَّة، رجل فَقَد البصر (ولم يفقدِ البصيرة)، فقير فقراً يَخجل منه الفقر، وربما كان يتجوَّل في شوارع مكة طالبا أو باحثا عن لُقيْمات تُنقذُه من الموت جوعا، عبد الله بن أُمِّ مكتوم (رضي الله عنه) ربما ينتهي به الأمر – في مجتمعات أخرى – إلى دار للعجزة، أو ربما يُنظَر إليه كعَالةٍ على مجتمعِه وأهله.

ما الذي جعل مثل هذا الصحابي الجليل، يصر على اقتحام مجالاتٍ لا يَقدر عليها إلا المتفوقون الأبطال المتميزون؟ ما الذي غرس فيه هذا الكَمَّ الهائلَ من الهِمَّة؟ لقد فرض عبد الله بن أم مكتوم نفسَه على التاريخ الإسلامي وعلى المجتمع الإنساني حتى يومنا هذا، لقد تحدى المستحيل، فقام بإدارة المدينة بعد غياب الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثرَ من عشر مرات، وهي مهمة لا يقدر عليها إلا المتميزون المتفوقون القادرون على تحمُّل أكثر المسؤوليات صعوبة وحساسية وأهمية.

كما تولَّى الصحابي الجليل مُهمَّةَ الأذان مع بلال بن رباح رضي الله عنهما، ثم أصرَّ إصرارا عجيبا على القتال مع جيش المسلمين، على الرَّغم من نزول آيات تُعفي الأعمى والأعرج والمريض من واجب الجهاد “لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ … الفتح/17”. بل وشارك فعلا في إحدى المعارك ونالَ الشَّهادةَ مُمسكا براية المسلمين.

بالتأكيد لم يقم الصحابي الجليل بكل ذلك، لأنه يصلي أو يُزكِّي أو يتلو القرآن الكريم، أو لأنه مُدركٌ للفقه والمعاملات، على الرغم من الأهمية القُصوى لكل هذه الجوانب، لكنه استطاع أن يُحقِّق ما حقَّقه، بسبب عناصر بناء الإنسان التي كانت تحتل حيِّزا كبيرا من خُطبِ، ودروسِ، وتربيةِ، وتوجيهاتِ، وأحاديثَ، وخطابِ وأهدافِ، الحبيب صلى الله عليه وسلم، لقد خلق الرسول الكريم بيئةً مُتشبِّعة بخِطاب الهِمَّة، والعِزَّة، والتفوّق، والسِّيادة، والإبداع.

لذلك علينا أن نَضخَّ هذه القِيمَ والمفاهيمَ والمهارات في مجتمعاتنا المُتعطِّشةِ لِمثلِ هذا الخطاب، عبرَ حَلَقاتنا، ودروسنا، ومحاضراتنا، وحواراتنا، وندواتنا، ونشاطاتنا الثقافيَّةِ (النَّظريَّة والعمليَّة)، وعبرَ كلِّ ما يتوفَّر بين أيدينا من وسائل إعلامية ورقيةٍ وصوتيةٍ وفضائية وإلكترونية، بل في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، من أجل أن نخلق داخل مجتمعاتنا، ومع غيرنا من المجتمعات في العالم توازنا فِكريا، وثقافيا، وإنتاجيا، وحضاريا (في جميع المجالات)، وعلينا أيضا أن نوقِف ونُلغيَ ونَطمس خطاب التراجع، والتبرير، والتعليل، والمداهنة، والدفاع والاعتذار. والله وليُّ التوفيق.

د. فتحي الفاضلي

مشاركة