من بين عشرات المئات من سيارات الأجرة في طرابلس، أوقفت يوم الخميس الماضي سيارة أجرة يقودها أحد الشباب، كان الإرهاق باديا على وجه الشاب، وكان شبه متوتر، شعره غير مصفف، ولحيته متناثرة غير مرتبة، نتيجة للعمل المرهق منذ الصباح، ما ذكرني بنفسي عند نهاية اليوم الدراسي.
أوقفته ما بين زاوية الدهماني والنوفليين، وطلبت منه أن يتجه إلى ميدان الجزائر، وكعادة الليبيين تحدثنا عن ليبيا ومعاناة ليبيا والليبيين، ولم نكن أثناء ذلك الحديث على وفاق، بل انفعل كلٌّ منا، وتمسك برأيه، ارتفعت أصواتنا وقاطعنا بعضنا البعض، وباختصار لم نتفق حول بعض النقاط أثناء مشوارنا القصير.
وصلنا إلى ميدان الجزائر، نزلت من سيارة الأجرة، وما أن ابتعدت خطوتين تقريبا، حتى ناداني الشاب قائلا: تليفونك يا حاج، وكان موبايلي قد سقط مني على الكرسي، وكدت أن أغادر دونه، شكرت الشاب كثيرا، واتجهت إلى حيث أنوي قضاء بعض الأمور في شارع المقريف.
وفجأة تذكرت أنني أحمل تليفون (موبايل آخر) وفتشت جيوبي جميعها (وبصراحة بتوتر شديد) لأنني متأكد أنني كنت أحمله معي، فتشت جيوبي دون طائل، وفقدت الأمل، وابتعدت سيارة الأجرة وصاحب سيارة الأجرة.
اتصلت بالرقم على تليفوني أكثر من مرة، لم يكن مقفلا، لكن دون جدوى، ودون رد، ما زاد في توتري وفقدان الأمل، ثم اتصلت بكلية التربية، حيث كنت بها صباحا على أمل أن أكون قد نسيت تليفوني هناك، وأكد لي الزملاء أنه ليس في المكتب الذي كنا به، وراودني الأمل في أن يكون التليفون في البيت، لكن البيت بعيد الآن، ولن يطمئن قلبي قبل أن أجد تليفوني، فأهمية الموبايل الغائب لا تكمن في قيمته المادية، والشفرة يمكن إلغاؤها، لكن أهميته تكمن في ما يحتويه من أرقام وأسماء وتواريخ وأمور متعلقة بعملي في الكلية، ربما أحتاج إلى أشهر لإعادة تجميعها، واصلت قضاء أموري التي جئت من أجلها، وعقلي مع تليفوني، وكنت – في الواقع – في أشد الضيق.
اتصلت مرة أخرى بتليفوني، ورد الشاب هذه المرة، وقال إنه وجد التليفون تحت الكرسي، واعتقد أنه للراكب الجديد؛ لأنه ناولني تليفوني الأول، وكاد أن يعطيه – كما نوه لي – لراكب آخر، ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة منتظرا أن يتصل أحد بذلك التليفون.
اتفقت مع الشاب على أن نلتقي في المكان الذي أوقفته فيه أول مرة، وذكر لي أنه حاليا في مدينة جنزور، ويود أن يستريح بسبب الإرهاق، ثم سيصلي العصر ويأتي إلى حيث اتفقنا، بل وأضاف أنه على استعداد للحضور فورا (من جنزور) على الرغم من تعبه وعلى الرغم من بعد المسافة وعلى الرغم من الازدحام الشديد في ذلك الوقت (ما بين الثالثة والرابعة والنصف مساء)، وقال إنه مستعد للحضور فورا إن كنت (أنا) في حاجة إلى تليفوني الآن، ولكن اتفقنا على أن نلتقي بعد العصر.
وفعلا جاء الشاب من جنزور ومعه التليفون وسط الزحام المزعج الشديد، وعندما أكثرت من شكره ومدح صنيعه، استوقفني وقال إنه دائما يرد لركابه وثائق وأظرف وأموال وموبيلات، وكم من راكب يغادر السيارة تاركا أشياء ثمينة فأنبهه لذلك كما فعلت معك بخصوص تليفونك الأول، وأضاف أن العمل الذي قمت به يعتبر ممارسة عادية، بل واجب كما قال لي، ولا يشعر أنه قام بعمل كبير يستحق هذا الثناء، وأضاف أنه يبحث عن رزق الحلال وأنه راضٍ بما يأتي به الله، وأن سعادته تكمن في رد الأمانات.
استأذنت من الشاب في أن أنشر هذه الواقعة على صفحتي وأن أنشر صورته مع اسمه، ووافق مشكورا على الفور، هذا الشاب هو عبد الله لكلوك، من سكان سوق الجمعة، بارك الله فيه وفي سوق الجمعة بأكملها.
ولا شك أنّ من الدروس الرئيسية التي نتذكرها أو قد نتعلمها من هذه الواقعة البسيطة، أن لا نحكم على الناس بمظاهرهم، فشاب هندامه، في تلك اللحظة، غير مرتب وشعره غير مصفف ولحيته غير مهذبة، نتيجة انغماسه في العمل، لكنه يحمل قلبا طيبا ويحمل قيما وأصالة وبيتية وخوفا من الله، وهنا تكمن قيمة الإنسان، وكم من إنسان متأنق ببدلاته وكرافتاته ونظاراته وعطوره وأمواله ومناصبه وسياراته الفارهة، وهو سارق فاسد كذاب.
الدرس الآخر الذي ذكرنا به عبد الله هو أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وأن عبد الله لم يحمل في قلبه ضغينة عندما اختلقنا في الرأي، بل فرق الشاب الطيب بين كل ذلك، وبين الأمانة ومخافة الله والرزق الحلال، ناهيك من أن بعد المسافة والازدحام والإزعاج والمشوار، لم يمنعه – كل ذلك – من رد الأمانة إلى أصحابها.
عبد الله – بإذن الله – نموذج للشباب الليبي الطيب العصامي المكافح الذي يبعث الأمل في غد أفضل بإذن الله، والذي يؤكد – هذا الشاب – للمرة الألف ويزيد أن ليبيا بلد الخير، وأن الخير لن ينفذ منها، وأنها ستظل دائما ليبيا الخير، فشكرا مليون مرة أستاذنا عبد الله وجعل الله كل ذلك في ميزان حسناتك، وعلمتنا أنه حتى لو فرقتنا الآراء فستجمعنا القيم يوما ما. والله ولي التوفيق.
من بين عشرات المئات من سيارات الأجرة في طرابلس، أوقفت يوم الخميس الماضي سيارة أجرة يقودها أحد الشباب، كان الإرهاق باديا على وجه الشاب، وكان شبه متوتر، شعره غير مصفف، ولحيته متناثرة غير مرتبة، نتيجة للعمل المرهق منذ الصباح، ما ذكرني بنفسي عند نهاية اليوم الدراسي.
أوقفته ما بين زاوية الدهماني والنوفليين، وطلبت منه أن يتجه إلى ميدان الجزائر، وكعادة الليبيين تحدثنا عن ليبيا ومعاناة ليبيا والليبيين، ولم نكن أثناء ذلك الحديث على وفاق، بل انفعل كلٌّ منا، وتمسك برأيه، ارتفعت أصواتنا وقاطعنا بعضنا البعض، وباختصار لم نتفق حول بعض النقاط أثناء مشوارنا القصير.
وصلنا إلى ميدان الجزائر، نزلت من سيارة الأجرة، وما أن ابتعدت خطوتين تقريبا، حتى ناداني الشاب قائلا: تليفونك يا حاج، وكان موبايلي قد سقط مني على الكرسي، وكدت أن أغادر دونه، شكرت الشاب كثيرا، واتجهت إلى حيث أنوي قضاء بعض الأمور في شارع المقريف.
وفجأة تذكرت أنني أحمل تليفون (موبايل آخر) وفتشت جيوبي جميعها (وبصراحة بتوتر شديد) لأنني متأكد أنني كنت أحمله معي، فتشت جيوبي دون طائل، وفقدت الأمل، وابتعدت سيارة الأجرة وصاحب سيارة الأجرة.
اتصلت بالرقم على تليفوني أكثر من مرة، لم يكن مقفلا، لكن دون جدوى، ودون رد، ما زاد في توتري وفقدان الأمل، ثم اتصلت بكلية التربية، حيث كنت بها صباحا على أمل أن أكون قد نسيت تليفوني هناك، وأكد لي الزملاء أنه ليس في المكتب الذي كنا به، وراودني الأمل في أن يكون التليفون في البيت، لكن البيت بعيد الآن، ولن يطمئن قلبي قبل أن أجد تليفوني، فأهمية الموبايل الغائب لا تكمن في قيمته المادية، والشفرة يمكن إلغاؤها، لكن أهميته تكمن في ما يحتويه من أرقام وأسماء وتواريخ وأمور متعلقة بعملي في الكلية، ربما أحتاج إلى أشهر لإعادة تجميعها، واصلت قضاء أموري التي جئت من أجلها، وعقلي مع تليفوني، وكنت – في الواقع – في أشد الضيق.
اتصلت مرة أخرى بتليفوني، ورد الشاب هذه المرة، وقال إنه وجد التليفون تحت الكرسي، واعتقد أنه للراكب الجديد؛ لأنه ناولني تليفوني الأول، وكاد أن يعطيه – كما نوه لي – لراكب آخر، ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة منتظرا أن يتصل أحد بذلك التليفون.
اتفقت مع الشاب على أن نلتقي في المكان الذي أوقفته فيه أول مرة، وذكر لي أنه حاليا في مدينة جنزور، ويود أن يستريح بسبب الإرهاق، ثم سيصلي العصر ويأتي إلى حيث اتفقنا، بل وأضاف أنه على استعداد للحضور فورا (من جنزور) على الرغم من تعبه وعلى الرغم من بعد المسافة وعلى الرغم من الازدحام الشديد في ذلك الوقت (ما بين الثالثة والرابعة والنصف مساء)، وقال إنه مستعد للحضور فورا إن كنت (أنا) في حاجة إلى تليفوني الآن، ولكن اتفقنا على أن نلتقي بعد العصر.
وفعلا جاء الشاب من جنزور ومعه التليفون وسط الزحام المزعج الشديد، وعندما أكثرت من شكره ومدح صنيعه، استوقفني وقال إنه دائما يرد لركابه وثائق وأظرف وأموال وموبيلات، وكم من راكب يغادر السيارة تاركا أشياء ثمينة فأنبهه لذلك كما فعلت معك بخصوص تليفونك الأول، وأضاف أن العمل الذي قمت به يعتبر ممارسة عادية، بل واجب كما قال لي، ولا يشعر أنه قام بعمل كبير يستحق هذا الثناء، وأضاف أنه يبحث عن رزق الحلال وأنه راضٍ بما يأتي به الله، وأن سعادته تكمن في رد الأمانات.
استأذنت من الشاب في أن أنشر هذه الواقعة على صفحتي وأن أنشر صورته مع اسمه، ووافق مشكورا على الفور، هذا الشاب هو عبد الله لكلوك، من سكان سوق الجمعة، بارك الله فيه وفي سوق الجمعة بأكملها.
ولا شك أنّ من الدروس الرئيسية التي نتذكرها أو قد نتعلمها من هذه الواقعة البسيطة، أن لا نحكم على الناس بمظاهرهم، فشاب هندامه، في تلك اللحظة، غير مرتب وشعره غير مصفف ولحيته غير مهذبة، نتيجة انغماسه في العمل، لكنه يحمل قلبا طيبا ويحمل قيما وأصالة وبيتية وخوفا من الله، وهنا تكمن قيمة الإنسان، وكم من إنسان متأنق ببدلاته وكرافتاته ونظاراته وعطوره وأمواله ومناصبه وسياراته الفارهة، وهو سارق فاسد كذاب.
الدرس الآخر الذي ذكرنا به عبد الله هو أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وأن عبد الله لم يحمل في قلبه ضغينة عندما اختلقنا في الرأي، بل فرق الشاب الطيب بين كل ذلك، وبين الأمانة ومخافة الله والرزق الحلال، ناهيك من أن بعد المسافة والازدحام والإزعاج والمشوار، لم يمنعه – كل ذلك – من رد الأمانة إلى أصحابها.
عبد الله – بإذن الله – نموذج للشباب الليبي الطيب العصامي المكافح الذي يبعث الأمل في غد أفضل بإذن الله، والذي يؤكد – هذا الشاب – للمرة الألف ويزيد أن ليبيا بلد الخير، وأن الخير لن ينفذ منها، وأنها ستظل دائما ليبيا الخير، فشكرا مليون مرة أستاذنا عبد الله وجعل الله كل ذلك في ميزان حسناتك، وعلمتنا أنه حتى لو فرقتنا الآراء فستجمعنا القيم يوما ما. والله ولي التوفيق.
د. فتحي الفاضلي
طرابلس- السبت 18-12-2020م