من ضحايا الإرهاب في ليبيا: زمرة أعداء الله… أم… زمرة أحباب الله؟

وكالعادة أضيف إلى تهمة اغتيال أحمد مصباح باقة أخرى من التهم من بينها تسميم خزانات المياه وقتل الخبراء الروس أو وضع السم في خزان مياه أحد الفنادق (فندق قصر النيل) والذي يقطن فيه روس (وهي نفس التهم التي وُجهت للشيخ البشتي ولمجموعة بدر أو مجموعة مايو 1984م، وللشهيد عبد المنعم النجار وغيرهم).

المحاكمات ومنطوق الحكم:

ومن بين المئات الذين تم اعتقالهم والتحقيق معهم على خلفية هذه القضية، تم تقديم 41 منهم للمحاكمة أمام محكمة يترأسها عبد الفتاح يونس بالإضافة إلى المستشار الدغاري (كمستشار ثان).

أصدرت المحكمة الحكم بالإعدام على الأربعة الذين اتهموا بقتل أحمد مصباح (علي البرعصي ومنير مناع ومحمد المحجوب وصالح العبار)، وبالمؤبد على كل من: علي العشيبي وأحمد الفلاح وسامي زيدان (الزيداني) وسعد الترهوني، وبستة سنوات على الشيخ حسن قطيط والشيخ محمد عبد الرازق، وبخمسة عشر عاما على مجموعة أخرى سنذكرها لاحقا بالاسم، وبإحكام متفاونة على باقي الـ 41 متهم، سنسرد –أيضا- أسماءهم والأحكام بحقهم لاحقا. وكالعادة لم ترق الأحكام لمعمر القذافي فأعيدت المحاكمة، وكان رئيس المحكمة الثانية البشاري عندما كان مسؤولا أو رئيسا للأمن الخارجي أو أمن الجماهيرية.

أصدرت المحكمة الثانية (المحكمة الثورية العسكرية الدائمة) برئاسة البشاري أحكاما بالإعدام على تسعة متهمين منهم ستة من المدنيين، هم: علي عبد العزيز حسن البرعصي (1957م) وأحمد محمد علي الفلاح (1956م) وعصام عبد القادر عبد القادر البدري (1965م) والمحجوب السنوسي عبد الوهاب المحجوب (1982م) وسعد خليفة محمد حمد الترهوني (1982م) وسامي عبد الله أحمد الزيداني (1964م). وثلاثة من العسكريين هم: منير محمد عبد الرازق مناع (1958م) وعلي حمد علي العشيبي (1956م) وصالح عبد النبي صالح العبار.

وفي شهر أكتوبر من عام 1986م ظهر المتهمون التسعة في محاكمة هزلية غوغائية على الهواء مباشرة في مسرحية من المسرحيات التي تعودنا عليها من سلسلة المحاكمات العلنية المضحكة المبكية، وكانت آثار التعذيب الشديد واضحة على الضحايا، وكالعادة شملت الجلسة العلنية على الهواء، ما تيسر من تهم وإهانات ووتضخيم واعترافات زائفة بألف تهمة وتهمة، دون التطرق لدور أو ممارسات أو جرائم أحمد مصباح الورفلين، وأظن أن هذه المسرحية كانت تمهيدا لقبول الناس لأحكام الإعدام، أو تبريرها.

وقبل أن نواصل الحديث عن مكان وتوقيت وواقعة الإعدامات والحديث عن باقي الأحكام على باقي المتهمين في المحاكمة الثانية، وكذلك التنويه إلى غرائب وأحداث ووقائع صاحبت هذه القضية -قبل كل ذلك- أود أن أقدم خلفية عامة عن المتهمين التسعة، وعن الشيخين قطيط ومحمد عبد الرزاق، بقدر ما توفر عن كل منهم من معلومات.

السيد علي عبد العزيز حسن البرعصي:

من مواليد 1957م، مقيم بحي بن يونس من سكان السلماني الشرقي (حي من أحياء مدينة بنغازي) رقم البطاقة الشخصية 2809/ ط، صادرة بمدينة طرابلس، يعمل بشركة المواشي واللحوم، افتتح مصنعا للحلوى ملحقا ببيته، بالرغم من أنه يلقب بـ”البرعصي” (قبيلة أواله)، لكنه ينتمي إلى قبيلة الشهيبات (شهيبي).

كان من رواد مسجد المستشفى العسكري بالسلماني، وكان يئم أحيانا ويقيم الصلاة ويؤذن في مسجد “الطياش” في منطقة بن يونس، كان صريحا ومحبوبا اجتماعيا، كان معروفا بشجاعته النادرة، صداعا بكلمة الحق، ذو إيمان يهد الجبال، لا يخاف في الله لومة لائم. وكان يدافع علنا عن العلماء والفقهاء والشيوخ، وكان في حالة صدام دائم مع أفراد الأمن الداخلي عندما كانوا يأتون إلى المسجد ليتجسسوا على عباد الله من المصلين، بل وكان يقوم بطردهم من المسجد.

مُنع من التعيين أو التوظيف أو العمل مع الدولة بسبب أنه ملتحٍ وشديد النقد للنظام، فافتتح مصنع للحلوى ملحقا ببيته، وقد هُدم بعد مقتل أحمد مصباح، تم إعفاؤه من الجيش بسبب أنه وحيد عائلة.

أدخل معه في مطار بنينا في بداية 1980م، ربما كان عائدا من زيارة لمصر، أشرطة للشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، وعندما سألوه في مطار بنينا: ما هذه الأشرطة؟ فأجابهم بأنها أشرطة “كشك”، ولم يقل أنها أشرطة “الشيخ عبد الحميد كشك” فظنوا أنه يقصد الكشك (الرقصة الشعبية) فتركوه يدخل بـ”الشنطة” المليئة بأشرطة الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله.

وقام في أحد الأيام عبر إذاعة المسجد الملاصق للمستشفى العسكري ببث شريط للشيخ عبد الحميد رحمه الله، ليسمعه الحي بأكمله، فجاءت مجموعة من الشرطة وأوقفوا البث واقتادوا السيد علي إلى مركز الشرطة للتحقيق، ثم أُطلق سراحه.

كان السيد علي البرعصي عنيف مع السجانين أثناء فترة اعتقاله، وكان يوبخهم ويشتمهم ويتخاصم معهم. أحرق الزادمة لحيته كما ذكرنا، وأثناء التحقيق -في إحدى المرات- كان علي البرعصي مقيدا بقيد حديدي (كليبشة) وكان المحقق يضيق من القيد ليؤلم السيد علي، ولكن الأمر العجيب أنه كلما ازداد تضييق القيد كلما انفك بأسرع ما يمكن بنفسه، وعندما كان الزادمة يتسأل قائلا: من فك قيدك؟ كان يجيبه السيد علي قائلا: الله.

السيد منير محمد مناع وآل مناع:

منير محمد عبد الرازق مناع من مواليد 1958م بمدينة بنغازي، جندي (تجنيد إجباري) تبع القوات المسلحة رقم 78482، صنف صواريخ، كتيبة 323، عمل أيضا في الإدارة العسكرية، مقيم في بن يونس (أحد أحياء مدينة بنغازي)، متزوج ورزق بكريمة تسمى آية.

عمل أيضا في معهد المعلمات وكان يدعو الطالبات ويشجعهن على ارتداء الحجاب، وبالفعل تحجب على يديه الكثير من الفتيات، نال السيد منير الشهادة الثانوية عبر الدراسة المسائية (المدرسة الليلية) وكان مجتهدا في دراسته، وكان صاحب خط جميل أيضا، ولغة عربية ممتازة، وكان يجيد اللغة الإنجليزية ويهوى لعبة الشطرنج، بالإضافة إلى كونه شخصا يُعتمد عليه عند الحاجة (صباي- وقاف) وكان محبوبا اجتماعيا، وكان بالإضافة إلى كل ذلك، ملاكما ضمن نادي الأهلي.

تتكون أسرة السيد منير من السيد محمد عبد الرازق مناع (1930- 1992م) والد الشهيد، وهو من أبناء حي الصابري، عمل مترجما في المحكمة وعمل أيضا في الأرصاد الجوية، وفي إدارة المطبوعات، والسيدة فطومة الشهاوي (1942م) والدة السيد منير الكريمة، وهي من مدينة طرابلس، وكان منير هو أكبر الأبناء سنا، يليه أخوه حسين ثم سعد ثم عمر وثلاث كريمات (جميلة وخديجة ونعيمة بالإضافة إلى كريمة أخرى من الأم).

وبالرغم من أن السيد محمد عبد الرازق مناع، والد السيد منير تحصل على الشهادة الابتدائية فقط، إلا أنه كان كاتبا صحفيا ومحررا ومؤرخا مبدعا، نشر عديد الكتب منها: كُتاب الوحي عبد الله بن أبي السرح 197، التوثيق العلمي ومراكزه 1976م، دوافع الثورة الليبية 1970م، المفيد في اللغة الإنجليزية، الشامل في اللغة الإنجليزية 1967م، زهير ابن قيس البلوي 1979م، تعليم اللغة العربية لقراء اللغة الإنجليزية 1979م، الكائنات البحرية منافعها وأضرارها 1982م، الطيران والأجواء 1975م، شيشنق الأول واسترداد القدس، أحمد الشريف حياته وجهاده، أبطال الاسلام – الملثم يوسف بن تاشقين 1979م، قاموس الدليل (إنجليزي عربي)، القبائل والأنساب العريقة في ليبيا، صالح لطيوش، الصحراء الليبية، خيبة الأمل السعيد، النباتات النادرة.

وسبق أن سُجن السيد محمد مناع على خلفية كتاب له كان تحت الإنجاز في العهد الملكي، بعنوان “ليبيا في مفترق الطرق” حوكم بسببه بالسجن لمدة ثلاث سنوات وربما عفى عنه الملك إدريس رحمه الله. ولم يطبع الكتاب.

ففي إحدى الليالي الممطرة كان السيد مناع عائدا إلى بيته رفقة زميل له على موتوسيكل (فيزبا) تعود لزميله المصاحب له في تلك الليلة السيد إبراهيم حماد، انزلق الموتوسيكل وتناثرت أوراق السيد مناع وكانت عبارة عن صفحات من كتاب “ليبيا في مفترق الطرق”، وصلت الشرطة لتقديم المساعدة، وعندما بدأت بجمع الأوراق المتناثرة، اعتقدوا – بعد الاطلاع عليها- أنها مناشير ضد الدولة، فاقتادوا السيد مناع وزميله حماد إلى مركز الشرطة، ثم إلى مقر المباحث.

عُذب السيد إبراهيم حماد عذابا شديدا، بالرغم من أن الأوراق أو الكتاب كان يخص السيد محمد مناع والذي كان يدافع عن زميله في ذلك الموقف ولكن دون جدوى، حكمت المحكمة على الاثنين بثلاث سنوات سجن، وعند الاستئناف في المحكمة العليا ظهرت براءتهم على اعتبار أن محتويات الأوراق كانت مجرد خواطر، بالإضافة إلى أن الكتاب لم ينشر بعد، وأعيد الاثنين إلى وظائفهم وأرجعت إليهم رواتبهم، وفي رواية أخرى أن الملك إدريس رحمه الله عفى عنهم، كما نوهنا سابقا.

وفي العهد العسكري عُين السيد محمد مناع رئاسة تحرير صحيفة “الثورة”، وهي أول صحيفة صدرت بعد انقلاب 1969م، لكنه قدم استقالته في فبراير 1970م، أي أنه تولى رئاسة التحرير لمدة ستة أشهر فقط، ثم ترك مجال الصحافة واتجه إلى الترجمة في مجالات العلوم واللغات والتاريخ .

كان أحد أسباب متاعب السيد محمد مناع مع النظام العسكري نشره مقال للدكتور عمرو خليفة النامي بعنوان “عودوا إلى ثكناتكم” والذي أحدث ضجة كبيرة، فوضع الدكتور عمرو النامي (المغيب حتى يومنا هذا) على قائمة أعداء الانقلاب، كما نشر السيد مناع أيضا مقال “الثورة… ما لها وما عليها” للشيخ علي يحي معمر، وجلب كل ذلك المتاعب للسيد محمد عبد الرازق مناع.

غادر السيد محمد مناع -عقب ذلك- ليبيا إلى الجزائر، وتحصل على لجوء سياسي فيها وعمل في الإذاعة الجزائرية كمحرر أخبار باللغة العربية، ثم غادر الجزائر إلى العراق ثم إلى مصر، وكان السيد محمد مناع معروفا بشجاعته الأدبية وأمانته ونزاهته ونظافة ذمته المالية، ومن أمثلة ذلك أن راتبه استمر بعد استقالته، ولكنه رفض أن يمس منه قرشا واحدا.

عقب مقتل أحمد مصباح الورفلي قرع عبد السلام الزادمة باب آل مناع بعد صلاة العصر ففتح الباب السيد مفتاح مناع، عم السيد منير، وقاموا باعتقال العائلة بأكملها نساء ورجالا وأطفالا وشيبا وشبابا وشابات، وأُخذوا جميعا إلى هيئة أمن الجماهيرية والتي كانت في ذلك الوقت تحت سلطة الوزري.

اعتقلوا السيدة الكريمة والدة منير، واعتقلوا أخواته الكريمات الثلاث جميلة وخديجة ونعيمة، وإخوته حسين وسعيد وعمر (كان عمر يبلغ من العمر في ذلك الوقت 14 عاما)، كما اعتقلوا في هذه الحملة ضيوف وجيران كانوا في البيت في ذلك الوقت، واعتقلوا سيدة جاءت تستضيف العائلة لعرس، وبعض شباب الشارع أيضا.

وباختصار أخذوا الجميع من رضيع بلغ من العمر ثلاثة أشهر، إلى سيدة بلغت من العمر التسعين عاما، اعتقلت السيدة والدة منير وأخواته لمدة أسبوع في مكتب هدي بن عامر في الأمن الداخلي، بينما ظل الرجال في معتقل الأمن الداخلي لمدة ثلاثة أشهر، بما فيهم عمر البالغ من العمر أربعة عشر عاما.

وقام عمران حميد السوداني أثناء الاعتقال بضرب والدة السيد منير بأخمص البندقية على كتفها وقد بلغت من العمر في ذلك الوقت الخمسين عاما، وعُذب السيد مفتاح مناع عم السيد منير عذابا شديدا، كما عُذب نسيب الأسرة السيد المبروك الغرياني عذابا شديدا أيضا، إلى أن كُسرت إحدى يديه.

مُنعت العائلة من نصب خيمة وإقامة العزاء، وأرسلت السلطات مخبرا (بصاص- واشي- فرماط) كان يقف في نهاية الشارع الذي يقع فيه بيت آل مناع، يراقب الزوار والسيارات وحركة الشارع بصفة عامة، لكن العائلة أصرت على إقامة المآتم.

كان والد السيد منير خارج ليبيا في ذلك الوقت، وعاد وسط هذا الموقف المأساوي، وعندما حاول النظام هدم بيته -كما هدموا بيت السيد علي البرعصي- وقف السيد محمد مناع أمام البولدوزر (الكاشيك) وفي يده ساطور، وكان يردد قائلا “لن أترككم تفعلون ذلك وسأموت على ما مات من أجله ابني”. فتركوه.

ولم تنته معاناة الأسرة بعد، فقد سُجن السيد سعد محمد مناع – أخو الشهيد منير مناع- لمدة 6 سنوات، وهو شابّ من رواد المساجد، يبلغ من العمر 23 سنة في ذلك الوقت، وكان طالبا بالسنة الأولى بكلية الهندسة، فحُرم من الدراسة بعد إعدام منير.

سُئل سعد أثناء امتحان مادة الوعي السياسي في المرحلة الثانوية سؤالا يقول: ما هي مهامّ اللجان الثورية؟ فأجاب: البصاصة (الوشاية أو الفرمطة) وشنق الناس وتعذيبهم، فرسّبوه في جميع المواد في تلك السنة (سبع مواد)، أما السيدة نعيمة مناع فقد فُصلت من المدرسة الثانوية، مدرسة خديجة الكبرى، فصلها مدير المدرسة ويدعى الشهيبية.

وقبل واقعة الإعدام تحصل حسين مناع شقيق منير (من مواليد 1961م)، على بعثة لإيرلندا تتبع الطيران المدني قسم الإرصاد الجوي (اللاسلكي)، لكنه حُرم منها بعد تنفيذ الإعدام، واستبعد من مجال اللاسلكي وأصبح موظفا في قسم الشؤون المالية والإدارية وبالتحديد أصبح موظفا بمطار بنينا (كأمين خزينة).

الشهيد عصام عبد القادر عبد القادر البدري:

هو ابن المرحوم عبد القادر البدري رئيس وزراء ليبيا الأسبق (يوليو1967م – 25 أكتوبر 1967م)، ولد السيد عصام في 1965م، وهو طالب، كان يقيم في طريق المطار- جامع البدرية، أعتقل يوم 13-8-1986م.

لم يكن السيد عصام ينتمي إلى التنظيم أو المجموعة التي اعتقلها النظام. ولم ينضمّ إلى مجموعة أو حزب أو تنظيم؟ ومع ذلك أعتقله النظام العسكري وحكم عليه – كما ذكرنا – بالإعدام.

كان الشهيد عصام يشعر بالعطش قبيل إعدامه بدقائق، فطلب شرية ماء، فرفضوا أن يعطوه ذلك. منتهى الحقد والسادية والقسوة، كما سقط الشهيد من المشنقة، وكان واقفاً بعد سقوطه، ويفترض سقوط حكم الإعدام في هذه الحالة، إلا أن الظلمة أعادوه مرة ثانية للمشنقة ليتم إعدامه، ومن العبث – بالطبع – الحديث عن إلغاء حكم الإعدام في مثل هذه الحالة في ظل دولة العقيد، وفي ظل سادية معمر وكلابه المسعورة، بالاضافة إلى أن المحاكمة أصلا باطلة، بل لم تكن هناك محاكمة حقيقية أصلا. كان مشهد غوغائي سادي همجي دموي. الشهيد الصادق الشويهدي – أيضا – لم يمت شنقا بل حُقن بابرة سم، بعد فشل عملية شنقه.

وفيما يخص والد الشهيد عصام السيد عبد القادر عبد القادر البدري (1921م-2003م)، والذي سُمي باسم والده (عبد القادر) لأن والده (جد الشهيد) توفّي وهو في بطن أمه، فقد تلقّى السيد عبد القادر تعليمه الابتدائي في المدارس الدينية واتجه إلى النشاط الزراعي والتجاري. ومن مساهماته الشهيرة في مدينة بنغازي بناء مسجد رائع يسمى بجامع البدرية او “بو البدرية” (سبق لي أن أدّيت فيه بعض الصلوات).

تولّى المرحوم عبد القادر عدة مناصب ووظائف ومسؤوليات في ليبيا منها: عضو بمجلس نواب برقة عن دائرة (توكرة) عام 1950م. ونائب في مجلس النواب الليبي لعدة دورات. ووزير للصحة في حكومة السيد عبدالمجيد كعبار (مايو 1957م- اكتوبر 1960م)، ووزير للصناعة في حكومة محمد عثمان الصيد (أكتوبر 1960م- مارس 1963م)، ووزير للأشغال العامة في حكومة السيد محمود المنتصر الثانية (يناير 1964م – مارس 1965م)، ووزيرا للإسكان والأملاك الحكوميّة في حكومة السيد حسين مازق (مارس 1965م- يوليو 1967م) ورئيس للوزراء لمدة ثلاثة أشهر (يوليو 1967م – أكتوبر1967م).

تعرض السيد عبد القادر بعد الانقلاب المشؤوم في 1969م للاعتقال والتحقيق شبه اليومي، وفُرضت عليه إقامة جبرية في مدينة بنغازي، وصودرت أمواله وممتلكاته، وظهر في المحاكمات العلنية التي كانت تُبث على الهواء والتي أقامها معمر القذافي (أذكر وقائع تلك المسرحيات جيدا وتابعتها بدقة).

وقد دافع الرجل عن نفسه أثناء تلك المسرحيات، فسرد بعض أعماله وإنجازاته في المدة القصيرة التي شغلها رئيسا للوزراء. وكان يتكلم في تلك المحكمة بقوة وثقة وثبات، مفنّدا الاتهامات التي وُجهت إليه. توفِّي السيد عبدالقادر البدري يوم 13 فبراير 2003م أي بعد خمسة عشر عاما من إعدام فلذة كبده، ولك أخي القاريء وأختي القارئة أ تتخيلي العذاب الذي يمر به يوميا كلما تذكر واقعة وملابسات إعدام ابنه.

الشهيد احمد محمد علي الفلاح:

ولد السيد أحمد محمد علي الفلاح في مدينة بنغازي عام 1956م، وهو من سكان مدينة بنغازي، عمل بوزارة التعليم وبالتحديد مدرس بمدرسة شهداء الهاني الابتدائية الإعدادية، بمنطقة المحيشي (أحد أحياء مدينة بنغازي). كان السيد أحمد مدرسا مجتهدا، وكان يركّز على تعليم الأطقال سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وكان ينبه الأطفال أن لا يقفوا له عند دخوله للصف، وكان من المترددين على مسجد “عقبة بن نافع” بمنطقة المحيشي، وكذلك مسجد علي بن ابي طالب، وكان والده السيد محمد الفلاح مؤذن بمسجد “سيدي يونس”.

في أحد الأيام تلقى السيد أحمد مكالمة هاتفية من أحد الليبيين في أفغانستان، اعتقل على أثرها. كانت المكالمة لأخيه فرج الفلاح وليست له، وقال المتصل من أفغانستان في معرض حديثه “وينكم راقدين” أو “تحركوا” كان المتصل يقصد بقوله: افعلوا شيء ضد الغزو الروسي لأفغانستان.

كان هاتف آلـ الفلاح مراقب على خلفية حديث فرج الفلاح العلني والمتواصل عن كرامات المجاهدين في أفغانستان، مع من يعرف ومع من لا يعرف. كان السيد فرج يدرس في مدرسة شهداء يناير مسائيا (مدرسة ليلية) وكان يتحدث باستمرار عن كرامات المجاهدين في أفغانستان، وبالطبع كان ذلك فرصة ذهبية للوشاة، لكي يكتبوا التقارير عنه وعن أحاديثه، فوضع تحت المراقبة، بل تم وضع آلـ الفلاح تحت المراقبة.

التقطت المخابرات المكالمة المذكورة (التي تلقاها أحمد بدلاً من فرج) والتي استمرت لأقل من دقيقة، تلك المكالمة التي لا علاقة لأحمد بها، ولا علاقة لمحتواها بليبيا على الإطلاق. فاُعتقل أحمد – كما ذكرنا – على خلفية ذلك.

ثم أعتقل فرج على خلفية مقتل أحمد مصباح، وكان الزادمة يردد لأحمد الفلاح أثناء التحقيق قائلا: “أعترف لي… ووالله إنطلعك أنت وخوك”، وانتهى الأمر بأن أُعدم أحمد وحُكم على فرج بالمؤبد. نفس الزادمة الذي يقسم قائلا “والله إنطلعك…” هو نفس الزادمة الذي قال لعلي البرعصي “نحن الله انخلوا فيه بره… هنا لا يوجد إلا الأخ القائد”.

الشهيد على حمد العشيبي:

ولد السيد علي حمد علي العشيبي في مدينة بنغازي عام 1956م، وهو نائب عريف بقوات الصاعقة يحمل الرقم 4208، ورقم جواز سفره 151119، اُرسل إلى تشاد في بداية الثمانينيّات، وأصيب في ذراعه. عاد بعد ذلك إلى ليبيا، وعمل مدرسا للتجييش في المدارس الثانوية. التزم بالمواظبة على صلواته في المسجد، وكان يصلي في مسجد علي بن ابي طالب بالتحديد، وكان أيضا مواظبا على صوم الاثنين والخميس.

الشهيد صالح عبد النبي صالح العبار:

ولد السيد صالح عبد النبي صالح العبار في مدينة بنغازي عام 1960م، عريف بالبحرية، يحمل الرقم 21796، يقيم في منطقة بن يونس، وإخوته حسين وعبد اللطيف وعلي وثلاث كريمات. تزوج في عام 1981 بالسيدة مي حاتم بدرالدين، سورية الجنسية، ورزق منها بـ وفاء وصلاح الدين ومحمد.

درس السيد صالح بمدرسة الأمير بمنطقة بن يونس، ثم توقف عن الدراسة بالمرحلة الإعدادية. تنقل بين عدة أعمال ووظائف، من بينها عمله موظاف بمكتب شركة الخطوط الجوية بمدينة إجدابيا حتى عام 1985م. طُلب بعدها للتجنيد العسكري وتم توجيهه إلى القاعدة البحرية بمدينة بنغازي. واستمرّ في عمله حتى ساعة اعتقاله. تم إعدامه رمياً بالرصاص في نفس القاعدة البحرية. رفضت زوجته السفر من ليبيا إلى سوريا بعد استشهاد زوجها. توفي والده بعد الإعدام، أي أنه شهد إعدام ابنه.

ذكر لزوجته أنه تعرض للتعذيب الشديد هو ورفاقه، وطلب منها ألاّ تصدّق ما قاله في التليفزيون أثناء المسرحية الهزلية. وذكر لها أثناء زيارتها له أنهم غيّروا القميص الذي كان يرتديه لأنه كان ملطخا بالدماء، وأعطوه بدلاً منه القميص الذي أظهر به أمامك، كما أخبرها بأنهم كانوا يضعونه في حوض (بانيو) مملوء بالماء وكانوا يمررون تيار كهربائي عبر الماء. لم يكن للسيد صالح أية علاقة بأفكار جهادية أو بغيرها من الأفكار، بل التزم عفويّا مع موجة الإاتزام أو الصحوة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات.

المحجوب السنوسي عبد الوهاب المحجوب:

من مواليد مدينة بنغازي 1963م، مقيم بمدينة بنغازي – شارع بيروت، موظف بمشروع تربية الدواجن، رقم البطاقة الشخصية 100026، صدرت ببنغازي في 1982م.

سامي عبد الله أحميد الزيداني (يُعرف بزيدان):

من مواليد مدينة بنغازي 1964م، بطاقة شخصية رقم 107755، صدرت في بنغازي 1982م، خريج معهد حمزة الديني، حافظ للقرآن الكريم، خطيب وإمام مسجد، جهة العمل وزارة الأوقاف، طالب علم شرعي، كان يسعى لإتمام دراسته في الشريعة خارج ليبيا. رزقه الله سبحانه وتعالى بصوت جميل أكسبه تلاوة مميزة.

سعد خليفة محمد محمد الترهوني:

من مواليد مدينة بنغازي 1962م، بطاقة شخصية 90724، صدرت في مدينة بنغازي في عام 1982م، كان يقيم بشارع عمرو بن العاص بمدينة بنغازي، يعمل موظفا في الشركة العامة للمباني.

الشيخ حسن عثمان قطيط الحاسي:

من مواليد 1933م، كان يعمل بقسم المراجع بمكتبة جامعة قار يونس، وبالتحديد في مكتبة كلية الآداب. كان يجمع الطلبة ويلقي عليهم دروسا دينية. وكان يدعو إلى الجهاد في أفغانستان. أُودع الشيخ حسن السجن بعد مقتل أحمد مصباح، وبالطبع تعرض للتعذيب والتهديد والإهانات والتوبيخ والتعذيب، كما مُنِع عنه علاج مرض السكري الذي كان يعاني منه. غادر الشيخ قطيط ليبيا إلى افغانستان بمجرد أن أطلق سراحه وتوفي في بيشاور باكستان يوم 5-5-1969م. بعد أن اصيب بجلطة دماغية نقله أبناؤه على إثرها للعلاج في فرنسا. ودفن في البقيع.

الشيخ محمد السيد عبد الرازق:

اعتقل الشيخ محمد عبد الرازق بمدينة مساعد، وكان متوجها إلى مصر، يعتقد الشباب الذين اعتقلوا وكانوا تحت النعذيب، أنه غادر ليبيا، وحتى يخفف عنهم العذاب، كانوا يرددون أن الشيخ محمد عبد الرازق هو من أفتى لنا بقتل أحمد مصباح، معتقدين أن الشيخ عبد الرازق قد غادر ليبيا، وهو بالتالي في أمان من الاعتقال والتنكيل والتعذيب. لكن – وكما ذكرنا – تم اعتقاله في مدينة مساعد قبل مغادرة ليبيا. وكذلك لفت اليه النظر عبر خطبته التي ذكر فيها الأية الكريمة التي يقول فيها سبحانه وتعالى: إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الاية، والتي أعتبرها النظام تشريعا أو إشارة إلى مقتل أحمد مصباح.

الأحكام… ومكان وتاريخ تنفيذ الإعدامات:

أولا: الإعدام رميا بالرصاص في مقر الثكنات العسكرية:

1- علي أحمد عبد الرزاق العشيبي (4208 م. ع. ر) / مقر القوات الخاصة معسكر الصاعقة بمنطقة بوعطني.

2- صالح عبد النبي صالح العبار، قاعدة بنغازي البحرية (21796)/ معسكر البحرية بجليانة.

3- منير محمد عبد الرازق مناع، لواء صواريخ الأخضر (الرتبة بلا – جندي)/ معسكر الصواريخ بمنطقة الفويهات.

ثانيا: الإعدام شنقا حتى الموت بمقر المؤتمر الشعبي الأساسي لكلّ ضحية (لكنهم أعدموا شنقا جميعا بمجمع سليمان الضراط- المدينة الرياضية).

1- علي عبد العزيز الكاتب (البرعصي) – المؤتمر الشعبي الأساسي السلماني.

2- أحمد محمد علي الفلاح- سلاوي.

3- سالم عبد الله حميد الزياني – بنغازي المركز.

4- محجوب السنوسي عبد الوهاب – رأس اعبيدة.

5- عصام عبد القادر عبد القادر-الأبيار.

6- سعد خليفة محمد الترهوني – بنغازي المركز.

وحكمت المحكمة بعزل سبع عشرة ضحية مدى الحياة (مؤبد) وهم: محمد السيد عبد الرازق (الشيخ)، محمد جمعة سعد الشاعري، عقيلة مفتاح محمد البسيكري، ابكر سالم كاره الشحومي، سالم عبد السلام عبد الله، فتحي محمد حامد الزوي، محمد يوسف محمود، جمال سالم علي الفيتوري، صالح عبد الله حسن البدري (إبن عم عصام البدري- أحد التسعة الذين أعدموا)، حمد فوزي محمد المهدي، منصور أحمد منصور الفيتوري، فرج محمد علي الفلاح (أخو أحمد الفلاح أحد التسعة الذين أعدموا)، عياد المهدي محمد، عطره سالم جابر الفيتوري، مصطفى صالح عاشور البرعصي، جمال عبد الله أبوهادي، حسن عثمان أقطيط الحاسي (الشيخ).

كما حكمت المحكمة بالإنذار النهائي بحق خمسة عشر متهما آخرين مع سحب جوازات سفرهم ووضع أسمائهم في قوائم الممنوعين من السفر، وعدم تكليفهم بوظائف قيادية في كافة الإدارات الشعبية وهم:

يوسف عبد الرحيم عبد الله، فوزي صالح بشير البرغثي، مسعود عبد الدائم الشهيبي، المهدي منصور أحمد، محمد سعد عبد السلام الشاعري، خالد محمد سعد، محمد سالم سعد بشير الفيتوري، خالد مبروك سليمان الميار (ربما يكون رئيس عرفاء في الصاعقة)، سالم عبد الرحمن المنفي (مكتوب الملفي- ربما خطاء مطبعي)، محمد مسعود الورفلي، عصام أحمد صالح التاجوري، صلاح الدين عبد المجيد، عبد القادر محمد محمد الأجطل، أحمد الطاهر أبوشريفة، غثمان عطية الله البرعصي.

كما قررت المحكمة الثورية العسكرية الدائمة الإفراج عنهم بعد تسليم جوازات سفرهم إلى المحكمة الثورية العسكرية الدائمة بالنسبة للمذكورين في الفقرة الرابعة. وجاء في منطوق الحكم ما يلي: يُنفّذ الحكم اعتبارا من تاريخ صدوره. صدر الحكم بالاجماع. التاريخ 17 فبراير 1987م.

وفعلا نُفّذ حكم الإعدام في 17 فبراير من عام 1987م شنقا وعلنا في المدينة الرياضية وبالتحديد في مجمع سليمان الضراط، نفس المجمع الذي شنق فيه الشهيد الصادق الشويهدي (رحمه الله) في ——— بمدينة بنغازي. وأعدم رمياً بالرصاص ثلاثة عسكريين أمام كتائبهم كما نوّهنا، وعلّق معمر القذافي على كل ذلك بقوله “إن هذه دروس مفيدة للشعب”.

تناقضات وغرائب ومفارقات حول هذه القضية:

– تعتبر عملية اغتيال أحمد مصباح أوّل عملية منظمة وغير عفوية يتلقاها النظام بصفة عامة واللجان الثورية بصفة خاصة من قبل القطاع المدني. بل كانت هذه العملية إيذانا بتحرك رياح الإرهاب الذي شرعه النظام ناحية النظام ولجانه الثورية.

– كما لا يفوت القاريء الكريم والقارئة الكريمة أن تاريخ الإعدامات (17 فبراير 1987م) يطابق تاريخ ثورتنا، ثورة 17 فبراير 2011م.

– كما أن قبور الشهداء غير معروفة إلى يومنا هذا، ومن المرجح أن الشهداء التسعة دُفنوا معا في مقبرة جماعية واحدة. وهناك رواية – لم أتحقق منها بعد – تقول إنّ الأحكام صدرت بعد ستة أشهر من التنفيذ الفعلي للإعدامات، وإن صحّ ذلك فستعتبر أوّل حادثة من هذا النوع على كوكب الأرض.

– ليس ذلك فحسب، فقد كان اثنان من الضحايا الذين حكم عليهم بالإعدام في السجن قبل اغتيال أحمد مصباح بشهرين أو ثلاثة. وهم الشهداء أحمد محمد علي الفلاح وعلي أحمد عبد الرازق العشيبي. وبالتالي لم يُشاركوا أو يُخطّطوا أو يحضروا مقتل أحمد مصباح، بل كانوا في المعتقل عندما قُتل أحمد مصباح. ومع ذلك حُكم عليهم بالإعدام على خلفية مقتله.

– كذلك لم ينضمّ الشهيد عصام البدري ولم يشارك في تأسيس أيّ تنظيم أو جماعة أو تجمّع، ومع ذلك قتل ظلما وبغيا وعدوانا. البعض أوعز ذلك إلى رغبة معمر في الانتقام من والد الشهيد السيد عبد القادر عبد القادر البدري.

– كما أن هناك أكثر من مقطع فيديو متوفر على اليوتيوب لمشهد الإعدامات – صوت وصورة بالطبع. مقاطع تُظهر إعدام الشهداء المدنيين الستة في مجمع سليمان الضراط، ومقاطع تُظهر إعدام العسكريين الثلاثة في معسكراتهم.

– ومُنع أهالي الضحايا من إقامة العزاء، وقالوا لهم “لا تنصبوا خيمة… ولا تحزنوا على أبنائكم”، وبعد أن أصرّ آلـ مناع على إقامة المآتم، فوجئو أثناء العزاء أو المآتم بحافلة مليئة بالفتيات وكنا يصفقن ويزغردن طربا، في مشهد يجسد الحقد والسادية، سادية ما بعدها سادية، وغير ذلك من الأمراض النفسية، وخاصة أن هذه الممارسات جاءت من بنات يُفترض أنهن يتصفن بالرقة والمودة والأدب والأنوثة والحنان. أي بصفات الأنوثة الفطرية السليمة.

– وفي المقابل لم يفت السيدات اللائي تحجّبن على أيدي السيد منير وغيرهن من طالبات المعهد حضور المآتم، تقديرا له على الاهتمام بهن وتقديرا له على فضله في نصحهن وإرشادهن والاهتمام بهنّ.

ومن المواقف الجديرة بالذكر ما يتداوله السجناء أثناء التحقيق من أن الزادمة قام بضرب السيد سامي زيدان، فرد سامي الضربة (ضرب الزادمة) وقال له: حتى أبّي لم يمدّ يده عليّ، فكيف تمد أنت يدك عليّ.

– وعندما تمكّن السيد صالح العبار وصديقه السيد منير مناع، بعد مقتل أحمد مصباح من الفرار، وبقُوا فترة في مزرعة تعود لصديق لهم في مدينة بنغازي، اعتقلوا بعد أن وصلت معلومات لعائلة السيد صالح العبار عن مكان وجوده. ووصل الخبر إلى أحد أقرباء السيد صالح (ربما علم من العائلة نفسها لثقتهم فيه كقريب)، وهو بالطبع من آل العبار، وكان مخبراً يتبع جهاز الأمن الداخلي، قام بالإبلاغ عن مكان صالح ومنير. وعلى أثر تلك الوشاية، تمت محاصرة المكان بقوات من الأمن الداخلي وقوات الصاعقة واعتقل إثر ذلك صالح ومنير.

– وأثناء الزيارة اليتيمة التي تحصل عليها أخو الشهيد صالح العبار ذكر له صالح أن إدارة سجن الشرطة العسكرية بمنطقة البركة بمدينة بنغازي قد أبلغتهم باحتمال السفر لطرابلس لمقابلة – من كانوا يسمّونه – بالزعيم معمر القذافي؛ وذكر الشهيد صالح العبار أيضا أنه ربما إذا رضي علينا (معمر) ستصدر في حقنا أحكام بالسجن وسنقضيها في السجن السياسي بطرابلس.

– وتمت المقابلة بالفعل بين الضحايا ومعمر وطلب منهم الاعتذار منه شخصياً وإعلان التوبة له بالمقابل يضمن لهم الحصول على أحكام بالسجن مدد تتراوح بين 10 سنوات و25 سنة؛ فرفضوا طلباته وأسمعوه ما لا يطيق سماعه.

– قام بتنفيذ حكم الإعدام في الشهيد صالح العبار عدد من أعضاء المثابة الثورية بالقاعدة، وبالأمر المباشر من آمر القاعدة، وهو نفسه الذي ظهر في صور التنفيذ (أنظر الفيديو) يطلق على رأس الشهيد صالح العبار عن قرب، رصاصة من مسدسه ليموت سريعا (أسماها فيما بعد رصاصة الرحمة). حدث ذلك بعد أن أطلق فريق التنفيذ الرماية على الشهيد، ولم يمت فورا. حُول آمر المعسكر إلى مجلس تحقيق ووبّخ بسببها لأنهم اعتبروا تصرّفه من قبل التعاطف مع أعداء النظام ومحاولة من آمر القاعدة التخفيف من آلام الشهيد قبل موته.

– وكما يروي أخو الشهيد العبار: بعد عدة أشهر من تنفيذ حكم الإعدام أرسل آمر المعسكر برسالة اعتذار سريا لآل العبار، وأضاف فيها قائلا إنه عبد مأمور. وبعد تحرير ليبيا من براثن الطغيان البغيض وصلت لآمر المعسكر رسالة من أحد أقرباء الشهيد (ربّما أخوه) مفادها أنّنا “نحن أولياء الدم قد قبلنا اعتذارك، وسبب قبول الاعتذار أن شهيدنا قدم روحه لربّه، وضحّى من أجل الوطن، والوطن أكبر من الانتقام، و قد ترك لنا الفخر والشرف ولأعدائنا الخزي والعار، وإذا بقي شيء بينك وبين الشهيد فتجهّز للقاءٍ معه عند صاحب العفو الذي لا تخفى عليه الخفايا ولا يظلم عنده أحدٌ أبداً عزّ وجلّ.

– وجاء في الرسالة أيضا: وعموماً من نطالبه بدمنا (يقصد رأس النظام السابق) قد عدنا عليه بفضل ربّنا وقاتلناه قتال الأبطال وأسقطناه بإذنه تعالى، حتى وقفت عليه وهو يسيلُ دماً؛ ليس انتقاماً لدم شهيدنا (صالح العبار) وحده بل لظلم شعبٍ كامل وبدماء كلّ شريفٍ سال منذ الانقلاب المشؤوم عام 1969 وحتى القضاء عليه عام 2011.

– وشخصيا أرى في هذه الرسالة العدل والصبر والقوة والتضحية والعفو والإصرار على الحق والشجاعة والرقيّ. بالرغم من ضرورة عدم التفريط في الحق العام.

– وأودّ أن أنوّه إلى أنّ الإشارة إلى مصباح الورفلي باسم قبيلته لا يعني انتقاصا من القبيلة، فهو لا يمثّل القبيلة، ثم إن من بين المتهمين في هذه القضية السيد محمد مسعود الورفلي، وتم اعتقاله وسجنه والتحقيق معه ومعاقبته على خلفية اغتيال مصباح الورفلي. وكذلك السيد صالح العبار الذي وشى به قريبه، وهو لآل العبار أيضاً.

– وبيت القصيد هنا هو أنّ الانتماء القبلي لم يفد محمد مسعود الورفلي ولم يفد صالح العبار، ولم يسيء إلى سمعة القبائل من جهة أو يشوهها من جهة أخرى. فلا فائدة تُرجى من مثل هذا الانتماء “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ – الحجرات 13″.

– ولا يفوتنا في هذا العرض أن نشير إلى أن موقف السيد علي البرعصي، كان موقفا تاريخيا، فنحن نعلم جميعا أساليب النظام الخبيثة في تجميع المعلومات وتجنيد المواطنين من أجل الوشاية على غيرهم. يقوم النظام بذلك عن طريق الترهيب والترغيب. لكن السيد علي البرعصي رحمه الله، انحاز لما يؤمن به بدلاً من أن ينحاز لرغباتهم، فلم تنجح معه كافة الضغوطات والأساليب والمغريات (بيت ومزرعة)، فهنيئا له وهنيئا للوطن بمثل هذه النماذج.

– لقد مُهد الطريق وفُتح الباب أمام المرحوم علي البرعصي ليكون من أهل الحظوة والمال والنفوذ والسلطة والجاه الدنيوي، عبر غدره وخيانته وغشه لرفاقه، واصطفافه مع الجلاد، لكنه رفض ذلك، واصطف مع رفاقه ومع مبادئه ومع الضحايا. لقد وضع السيد علي دينه والقيم التي يؤمن بها والوطن نصب عينيه. البعض في وطننا أغراهم المال فسفكوا دماء بني وطنهم من المسلمين من أجل بيت مغتصب أو من أجل مزرعة مغتصبة أو منصب أو مال، متاع دنيا لن يرافقهم إلى القبر.

– ومن المفارقات، حول تلازم البطانية وأغسطس والعيد، أنه عندما قُتل الشهيد ناجي بوحوية تحت التعذيب في معسكر 7 أبريل، في شهر أغسطس، ثاني أيّام العيد، على يد أحمد مصباح، وعندما أخبر زبانية المعسكر حسن أشكال بمقتل الشهيد ناجي قال “لفوه في بطانية، والمعسكر واسع ادفنوه وين ما يجي”. وقُتل أحمد مصباح ليلة العيد في شهر أغسطس ووجدت جثته وجثة حارسه ملفوفتين في بطانية وموضوعتين على سور مقبرة سيدي عبيد كما نوّهنا عليه أعلاه.

– ومن الحقائق حول هذه القضية أن الاعترافات التي بُثّت على الهواء ليست مباشرة، بل كانت مسجلة، وكان زبانية النظام يتوقفون عن التسجيل ويقومون بضرب الضحايا بين المقاطع كلما صرح الضحية بما لا يريدون، وكانوا يقومون بعملية مونتاج لكل مقطع، تضليلا للرأي العام وإخفاء للحقائق وطمس لكل ما يمكن أن يبريء الضحايا. وكانوا يُملون على الضحايا ما يجب قوله، وعندما يرفض الضحية، أو يقول ما لا يريدون، يوقفون التسجيل ويعتدون بالضرب على الضحية إلى أن يرضخ لما يرغبون.

– وأثناء سير الضحايا تجاه منصات الإعدام كان أحد الكلاب المسعورة يقوم بحركات استفزازية ضدّ السيد المحجوب، فقد كان يضايقه ويدفعه من الخلف عدة مرات، ويتلفظ بالفاظ استفزازية، وفجأة التفت السيد المحجوب وضربه بدماغه (روسية بلهجتنا) فسقط على الأرض مضرجا بالدماء، وانتقاما من السيد المحجوب تأرجح الكلب المسعور في جثة الشهيد حقدا وسادية وانتقاما، بل صفع الشهيد وهو يتدلى في حبل المشنقة، ولم يقدر أن يهمس بكلمة والشهيد حي بالرغم من أأنه كان مقيّدا وكان في طريقه إلى حبل المشنقة، وتواتر أن اسم ذلك الكلب المسعور ربّما يكون “الهادي” وهو أسمر البشرة من فزان.

وتسرّبت مقاطع قرآن كريم عبر مكبّر الصوت أثناء سرد الكلاب المسعورة لترّهاتهم في موقع الإعدام، فانتفضوا كمن يتخبّطه الشيطان من المسّ. كما كان الشهداء يرتّلون القرآن أثناء إعدامهم وكانت شياطين الإنس تقوم بضربهم لمنعهم من ذلك.

– يروي شاهد عيان بعد اكتشاف جثة أحمد مصباح: أن رجلا مسنّا كان يحاول أن يبيع شيئا من الخضروات قرب سوق “بالعون” في منطقة “الفويهات”، وكان هناك موكب سيارات، بها مجموعة من أعضاء اللجان الثورية غاضبين، توقّفت إحدى السيارات وخرج منها بعض الأعضاء واقتربوا من الرجل المسن وألقوا صناديق الخضرة على قارعة الطريق بما كان فيها من بعض الخيار والطماطم، وكان معهم فتاتان وشاب، وكان ذلك الشاب عارف بن عامر شقيق هدى بن عامر، وقد عرفته لأنّه كان زميل دراسة. وعندما احتج ذلك الرجل المسن على تصرفاتهم اقترب منه هذا العارف وصفعه على وجهه صفعة أوقعته أرضا وسال الدم من جبينه.

– ومن الملفت للنظر أن النظام لم يعاقب أحمد مصباح عندما كان يصول ويعذّب ويجول، لم نسمع عن تحقيق ومحاكم ورؤساء محاكم ومستشارين ومنطوق ومحاكم علنية. ولو فعل النظام ذلك لوفّر على الوطن كل هذه الوقائع والدماء والأحداث.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعوّض أهالي وذوي الشهداء: أرامل ويتامى وآباء وأمّهات وإخوة وأخوات كل خير معنويّا وماديّا عمّا عانوه من ظلم ومعاناة وآلام وأحزان، وأن يحشر ضحايانا في الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وأن يعوض ليبيا عمن فقدتهم من خيرة فلذات كبدها. وأن يعين ليبيا والليبيين على تأسيس دولة العدل والأمن والأمان والمساواة والقانون، حيث لا ظالم ولا معتدي ولا متجبر ولا طاغية ولا مظلوم. إنه على ذلك لقدير. والله من وراء القصد.

د. فتحي الفاضلي

طرابلس- 8-6-2021م

المراجع:

– مقابلات واتصالات شخصية.

– صورة وتاريخ… معارض بمفرده – ليبيا اليوم- الإثنين 15 صفر 1433هـ – 9 يناير 2021م – السنة الأولى العدد 140- ص 16.

– من جرائم القذافي… جريمة وثقت بالصوت والصورة – إعدامات 17 فبراير 87م – مقال نشر في صحيفة قورينا – العدد 662- د. محمد المفتي… الثلاثاء 4 ذو الحجة 1432 هـ – الموافق 1 نوفمبر 2011م .

– سلسلة بنغازى وعبث الكوازي ليبيا المستقبل الحلقة الثامنة- فتح الله ابزيو – ليبيا المستقبل – 8 مايو 2009م – الرابط:

http://archive.libya-al-mostakbal.org/Articles0509/fathallah_bzew_080509.html

– إعدامات 1987م – على اليوتيوب – الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=N3Jdyc-Q4f4

– إعدامات 1987م- أوسمة على صدر الوطن… من ضحايا الإرهاب في ليبيا –- فتحي الفاضلي – الحلقات من 51 إلى 54- رابط الحلقة 51:

https://www.youtube.com/watch?v=vZFc2Dwj7cw&list=PL3HVtgVIGmIwyJC0H0HR1fWe551tXHYcZ&index=51