اشتكت زميلة لي.. في إحدى المؤسسات.. من محاولات تهميشها حتى لا تتميز.
فبادرتها قائلاً دون تحفظ ودون تفكير ودون استعداد: لا تحزني.. فإن مجرد محاولة أو فكرة تهميشك.. هو اعتراف ضمني بتميزك أصلاً.. هو اعتراف بقوتك.. هو اعتراف بخطورتك (الفرضية) على أصحاب النفوس الضعيفة.. والضعيفة فقط.. بل المريضة.. لأن أصحاب النفوس الطيبة.. وأصحاب الفطرة السليمة.. يعتبرون نجاح الآخرين وتفوقهم وتميزهم.. هو نجاح وتفوق وتميز لهم.

فلا تحزني، وتجاهلي، وواصلي طريقك حتى تحقيق أهدافك وطموحاتك وأحلامك.

افترقنا زمناً.. ووصلت زميلتنا إلى أعلى المراتب، وتفوقت، وتميزت، وارتفعت.. وعلا شأنها.. دون أن أدري بذلك.. إلى أن التقينا.. ففاجأتني بأن حاولت أن تُقبل يدي ورأسي .. ثم أمطرتني بوابل من كلمات الشكر والمديح والامتنان والثناء والتقدير.. وووو.

كنت أثناء ذلك أقلب جميع ملفاتي الجديد منها والقديم، بل والذي أكل عليها الدهر وشرب محاولاً – دون جدوى – استيعاب سبب ما تقوم به زميلتنا الكريمة، لكن الذاكرة عاندت عناداً شديداً وخانتني دون رحمة.

أسعفتني الزميلة، بعد أن انتصرت ملامح الحيرة وسيطرت على وجهي، تلك الملامح التي كنت أحاول أن أخفيها، فأوضحت لي قائلة: إن حروفك التي قصفتني بها قائلاً: “إن محاولات التهميش هو اعتراف ضمني بالتميز”.. قد حُفرت في ذاكرتي وأيقضتني من تخدير الإحباط إلى قمة الانطلاق. ثم ذكرتني مشكورة بحديثنا العابر.

همست قائلاً: تلك يا سيدتي كلمات خرجت من المدسوس.. من المخزون الخاص.. دون أمر مني.. خرجت من العقل الباطن دون استئذان..خرجت متمردة على خصوصيات صاحبها.. فأصابت هدفها، وكم سعدت أن كلمات متواضعة معدودة انطلقت من القلب فشحنت إنساناً إيجابياً لسنوات، وسنوات، وسنوات.

كلمات لم ألق لها بالاً..؛ لكنها خرجت من واقع.. من معاناة شخصية سابقة.. من جرح متبادل مع الزميلة.. من خذلان سابق.. جرح استطعت في الماضي أن اتجاهله برغم مرارته، تجاهلته وانطلقت، تماماً كما حدث لزميلتنا.

فلا تستهينوا بقوة الكلمة الطيبة.. لجبر خاطر مكسور.. بمواساة إنسان.. بإدخال السرور على مسلم.. بإظهار الفرح لنجاحه.. بمشاركته أفراحه.. وأحزانه.. بتخفيف آلامه. فـ” المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا؟” كما قال سيد ولد آدم، أعظم معلم في الكون والإنسانية والتاريخ.

أما الذي ينظر للآخر.. من زملائه.. أو من أبناء مجتمعه.. كخصم.. كمنافس.. كمتحدٍ.. كخطر.. كمصدر تهديد.. كضد.. الذي ينظر للآخرين كالأعداء المتربصين به، وليس كالبنيان المرصوص، والذي يعتقد أنه وراء كل شيء ناجح، وأنه لن ينجح شيء بدونه، وأنه السباق في كل شيء، وأنه هو من يُسير الكون، فقد أعلن ضمنياً أنه بينه وبين التفوق والتميز والإبداع ما بين مجرتنا والمجرات الأخرى. فشرط من شروط التميز أن تفرح لنجاح الآخر، وأن تتمنى تميز الآخر، وأن تنظر إليهم كسند وقوة ودعم، وهذا يذكرنا بقوله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام: ” سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ” القصص- 35″

وعليه فبدلاً من أن يصرف صاحب تلك النفس المرتعبة وقته وطاقته وجهده في تهميش الآخرين يلزمه أن يصرفها في إصلاح نفسه، فعسى بذلك أن يصل إلى قمة القمم، بدلاً من أن يقبع طول عمره في قاع القاع.

والله من وراء القصد.

جمعتكم مباركة

مع تحياتي.

فتحي الفاضلي

طرابلس- 2-2-2024م

مشاركة