الغيث واحدٌ، والأمطار أنواع

(في رثاء الدُّكتور غيث الفاخري – رحمه الله-)

بقلم: أ.د محمَّد علي بلاعو. المملكة المتَّحدة

وصف الشَّاعر موت الكبار ( يموت بموته خلقٌ كثيرُ ) وقد صدق في هذا الوصف، وهكذا كان الفقيد، هو غيثٌ له من اسمه نصيبٌ، فالغيث واحدٌ، لا يحمل إلا الخير، أمَّا المطر فله أنواع؛ قد يكون للنِّقمة، وقد يكون للنِّعمة، أمَّا غيثنا فهو غيث نعمةٍ وخير، وتواضعٍ، وخلقٍ، وجمالٍ، وعلمٍ، وإنسانيَّة.

كان غيثنا واحةً من الجمال، وعالـمًا من السَّماحة، وبحرًا من الوفاء، ومحيطًا من اللطافة وحسن الخلق، زرتُه أوَّل مرَّة بصحبة أحد المشايخ الفضلاء، فوجدته متألـمًا من إبرةٍ علاجيَّة في عينه، لم يمنعه ذلك من الحرص على اللِّقاء وكثرة التَّرحيب وجود الضِّيافة، استمرَّت الصِّلة بالزِّيارات والاتِّصالات؛ حتَّى جاءت الثَّورة وأسِّست دار الإفتاء العامرة، فاتَّصل بي لأكون معه في اللَّجنة، وهكذا قد كان.

كان مبنى الدار مقسَّما إلى رواقين؛ الرواق الأيمن يضم مكاتب الإفتاء، وهي: مكتب العارف بالله سيدي الفقيه صالح المجبري رحمة الله عليه، ومكتب الفقيه الألمعي الشَّيخ حسن الشَّريف، ومكتب الفقيه الفرضي الشيخ حسن بو زقيَّه، ومكتب العبد الضَّعيف، ثمَّ المصلَّى، وصالة الانتظار، ومكتبة متوسِّطة. أمَّا الرواق الأيسر فيضمُّ مكاتب الإدارة؛ ففيه مكتب العلَّامة الرَّاحل – رحمه الله-، ومكتب مدير شؤونه الشَّيخ الصَّديق الأثير هشام السنوسي، ومكتب الأديب الوقور الشيخ أحمد عبيد، ومكتب الصديق العزيز الشيخ مفتاح بن حسونه؛ فهو مفتاح النِّظام، وشعلة الترتيب والتنسيق.

يأتي غيثنا صباحًا، فإن كان على عجلةٍ أو موعدٍ ما، يدلف إلى مكتبه مباشرة، وإن كان في وقته سعة يتّجه يمنةً ليدخل على كل واحدٍ منا مسلِّمًا وسائلًا عن حاله وأعماله. ننهمك جميعًا في الفتاوى بين الإجابات الشَّفهية، أو تحرير الفتاوى كتابيًا، كان الخلاف أحيانا يشتدُّ في إثبات أوجه الاجتهاد، أو تحرير العبارات بين: ينبغي أو يجب، يُمنع تورُّعًا أو تحريمًا وهكذا، غير أنَّ الجميل أن هاتيك الخلافات تتلاشى حين يأتي غيثنا لينادي علينا بالصَّلاة، ندخل للمصلّى، ويهرع بعضنا مسرعًا لتجديد الوضوء، كان غيثنا حريصًا على الإقامة دون الإمامة، يقيم الصَّلاة، ثمَّ نصطفُّ جميعًا خلف سيدي العارف بالله صالح المجبري، نصلِّي صلاةً غير الصَّلاة التي اعتدنا عليها، صلاة سرِّيَّة، لكن لها طعمًا مختلفًا، لا أدري ما السبب؟ أهو الإمام؟ أم البيئة؟ أم الألفة التي تشكَّلت فتجسَّدت فوقفتْ بين يدي ربها؟ أم تراه بركة العلم ونور القرآن؟! نكمل صلاتنا ثمَّ يهرع كل واحدٍ منَّا إلى مكتبه، ليدفن رأسه في تحرير مسألة، أو بحث عن جوابٍ، أو استئنافٍ لفتوًى.

كنت آتي ثلاثة أيَّامٍ في الأسبوع، وأحيانًا يومين بسبب طول المسافة، ومهارة القيادة !! لم أسمع من غيثنا يومًا عتابًا على التَّأخير أو التَّقصير. كانت ملامحه هادئة، ولهجته صادقة، وخطابه أبويًا، وكنت في المقابل أجتهد لتلافي التَّقصير الذي يحصل في الأسابيع التي لا أستطيع أن أداوم فيها ثلاثة أيامٍ، فأعوِّضها بحضورٍ كاملٍ في غيرها.

صلَّينا الظُّهر يومًا، ثمَّ جلسنا نتحادث سويًّا، سألته عن علاقته مع سماحة المفتي الإمام الصَّادق ، فقال لي: يا شيخ محمَّد، أنا أعرف الشيخ الصَّادق منذ سنة 1989 لم أر منه إلا الصِّدق الكامل، والوفاء العميم، ولم يخالف ما يؤمن بها، أو يجامل في دين الله، ولا تزال محبتي واحترامي له كل يومٍ في ازديادٍ، ثمَّ أطرق كأنَّه اشتاق إلى خليله، وهكذا كان، فقد عاشا جميعًا، تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه. رحم الله العلَّامة غيث، وحفظ الله للأمَّة سماحة المفتي الإمام *الصَّادق .

*

في خضمِّ الجدل حول ماهيَّة الدُّستور، استضفتُه في مدينتي لإلقاء محاضرةٍ حول المحدِّدات التي ينبغي أن يكون عليها الدستور، كان الحديث عن الدستور أمرًا جديدًا شائقًا. أتى غيثنا ، كانت القاعة ملأى، قدمتُه للجمهور، ثمَّ دلف في الموضوع كالسَّيل الهادر، انتهى زمن المحاضرة، وبقي الحضور كما هو لم ينقص بل يزيد، زدنا وقتًا إضافيًّا حتى استوفى الجميع بغيته. رفض غيثنا أن يقبل الدَّعوة للعشاء؛ حتَّى لا تكون كِفاء ما ألقى، ثمَّ هممتُ بترتيب من يرافقه حتى تخوم المدينة، فقد كانت الثَّورة في أوجها، فسارَّني وشكرني، وطلب انصرافهم، ثمَّ قال: يا شيخ محمَّد؛ هذه بهرجةٌ لا أحبها؛ إنَّ الله يحب العبد الخفي التَّقي النَّقي.

قرَّرنا يومًا – وأظنُّ المقترح كان من الشيخ مفتاح – أن نذهب إلى زردةٍ نلعب ونمرح، ونرفِّه عن أنفسنا قليلًا من ضغط العمل، والزَّردة في اللهجة الليبية المتداولة في الشَّرق بمعنى: الرِّحلة أو الفسحة، اقترحتُ عليهم أن يأتوا إلى مدينتي، فهي أقرب إلى الرِّيف، ولي صديقٌ عنده بيتٌ في مزرعةٍ أشبه بالغابة، يمكن للإنسان أن يرتاح فيها ويقضي اليوم كاملًا، وصل الوفد، وكان اليوم عاصفًا بالأتربة والغبار، لم يمنعنا سوء الجوِّ من الاستمتاع، أظهر الزُّملاء مهارةً عالية في فنون الطَّبخ مثل مهارتهم في العلم، أكلنا ثم َّجلسنا في الاستراحة لشرب الشَّاي، كان غيثنا حاضرًا معنا بأخوَّته وإنسانيَّته، لا بهيبته ومشيخته ومنصبه، لعبنا وحكينا مواقف طريفة، ثمَّ وجدنا كرة قدمٍ، فأخذنا نلعبُ، تحمَّس غيثنا للّعب، فهَمَّ واضعًا ثوبه في سرواله حتَّى يتاح له اللعب براحةٍ أكثر، لعبنا جميعًا، حتى سيدي صالح كان له حظٌّ من اللعب، وهو الثَّمانيني المتعب. وضحكنا وكأننا في عمرٍ واحدٍ، ومستوًى واحدٍ.

لم يدم بقائي طويلًا في الدَّار بعد تلك الزَّردة، حتَّى استجدت ظروفٌ غادرتُ إثرها البلد. طيلة هذه السنوات لم ينقطع تواصلي بفقيدنا الرَّاحل، كلمتُه معزِّيًا بعد وفاة زوجته، ثمَّ سألتُه عن حاله وخاطره، فأخذتْه عاطفة فبكى؛ وبكيتُ ببكائه، ثمَّ سرعان ما تمالك نفسه، وغيَّر الموضوع.

كان غيثنا ذكيًّا ألمعيًّا لـــمَّاحًا، مراعيًا للمشاعر وجابرًا للخواطر، هكذا كان رحمه الله، كان غيثنا نجمًا متلألئًا في سماء بنغازي، هو وإخوانه من العلماء والفقهاء، كان بصحبة أخيه العالم اللُّغوي الدكتور ناصر العرفي، والفقيه الكبير عادل المغربي، والأستاذ المربي امراجع الطلحي، والخطيب المفوَّه سالم جابر، والمحدِّث العالم أحمد الهجينة رحمه الله، والعالم المقرئ محمَّد الزروق، وآخرون من أهل الفضل والعلم والنباهة، كانوا من زينة الدُّنيا، ومن النَّعيم المعجَّل، كان طلاب العلم يسعون بين حلقهم ومساجدهم سعي الحجيج بين الصَّفا والمروة، واليوم تنكرت لهم الدِّيار، وخلت منهم البلاد.

تنكرتِ البلاد ومَن عليها كأنَّ أناسَها ليسوا بناسي

غادر غيثنا دنيانا خفيفًا كما عاش فيها خفيفًا، سريعًا كما عاش فيها سريعًا، محبوبًا كما عاش فيها محبوبًا، ولسان حالي يردِّد قول الراجز:

يا لهفي عليه ويا لهف نفْسي أيصبحُ في التُّراب وفيه يمسي

رحل غيثنا وقد كان ملء سمع وبصر هذه الدُّنيا، فكم جال فيها وصال، وكم كتب فيها وقال. رحل غيثنا ؛ حزنَّا وبكينا لفقد أخٍ كبيرٍ وأبٍ رحيمٍ وعالمٍ فذٍّ، سنفتقدك شيخنا، سيفتقدك أهلك وأقاربك، سيفتقدك إخوانك في دار الإفتاء وفي الجامعات والهيئات العلمائيَّة، سيفتقدك مصحفك، سيفتقدك موضع سجودك، سيفتقدك ويبكيك النَّاس والعلم…

حتَّى المحاريب تبكي وهي جامدة حتَّى المنابر ترثي وهي عيدان

وداعًا غيثنا وشيخنا، طبتَ حيًا وميِّتًا، وسلامًا على روحك في الخالدين…..