الأذرع الثلاث .. شرارة انطلاق النكبة
يتجمع شبان بعض المناطق من مدينة بنغازي، من الذين تشبعوا عنفا وتحريضا وحقدا، يغلقون الطرقات والشوارع، ويتكدسون في الأزقة، كان بعضهم يرتدي ملابس تدل على غلبة الجهل وطيش في الاندفاع، هؤلاء هم الصحوات الذين رأوا بنغازي تغرق في وحل عمليات اغتيال مشبوهة، ووجه الإعلام المسير أفكارهم، يوم أن رأى قلة تعلمهم وفقههم السياسي، وجرأتهم في افتعال الفوضى، فكانوا هم المقدمة وهم الذراع الأولى، كان معهم آخرون ببزات عسكرية، ذراع ثانية، تأبطوا شرا من ثورة فبراير لولاء عندهم لقائدهم الأسبق، أما ثالث الأذرع، فكان يرتدي قميصا إسلاميا يرفع إزاره ويعفي لحيته، كان متمثلا في التيار المدخلي الذي أعلن تأييده التام للقائد الجديد منذ البداية، اتفقوا جميعهم على حمل السلاح، وعلى أن يُخرجوا من لم يعجبه القائد الجديد! ولسان حالهم أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس لا يُستعبدون.
اقتحموا مساكن أسر آمنة، لم يفرقوا بين أن كانت بريئة أم مذنبة، دون إبداء أية أسباب، أو إبراز أي أمر بالقبض، بل ودون الإفصاح عن هويتهم، أو الجهة التي تلقوا منها الأوامر، كانوا يجرجرون واحداً أو أكثر من أفراد الأسرة إلى سيارتهم، ثم يقتادونهم إلى مصير غير معلوم.
هكذا كان المشهد مخيفا مهيبا لمن لم يطع القائد الجديد، فما كان للمستضعفين الرافضين إلا أن يخرجوا أفواجا وأفرادا تاركين بنغازي، البلد الذي نشأوا فيه وترعرعوا.
اقتحموا مساكن أسر آمنة، لم يفرقوا بين أن كانت بريئة أم مذنبة، دون إبداء أية أسباب، أو إبراز أي أمر بالقبض، بل ودون الإفصاح عن هويتهم، أو الجهة التي تلقوا منها الأوامر
بداية النكبة .. ورابع الأذرع:
كانت البداية بإعلان ما سمي بعملية الكرامة، تبعتها حملة تشويه وتحريض ينسقها ما عرف بالتيار المدني وهو الذراع الرابع للعملية، ضربوا من لا يؤيد العملية، واصفين بنغازي بمدينة الاغتيالات والتفجيرات والإرهاب، وأن من لا يريد الكرامة فهو مسؤول عن تلك الجرائم، هو إرهابي، كانت المعادلة بسيطة، والمعطيات سهلة، القائد الجديد كان مجرم الحرب حفتر، رغم ماضيه المليء بالهزائم والجرائم إلا أنه ظهر كمنقذ لا يريد السلطة، ثائر جاء بتفويض شعبي، لحماية الشعب من براثن الإرهاب.
إعلام النكبة .. دعوة للعنف والجريمة
كان الشعب حائرا بين هذه الأذرع الأربعة، ليجيء بعدها من يشعل نار الحرب، لقد أجج الإعلام حربا لا هوادة فيها، وأوقدها العسكر بتسليح المدنيين المؤيدين له، لينتشر الظلم من يومها، ويقذف الذعر في أنحاء الآمنة بنغازي ، كان من بين الإعلاميين المدعو محمد امطلل الذي لم يدخر جهدا في التحريض على كل من خالف حفتر، فوصف كل مخالف بالأخونة والدعشنة، أوصله ذلك لأن يصف صحيفة الجارديان والبي بي سي البريطانية بأنها تابعة للإخوان المسلمين لأنها نقلت خبرا لم يعجب القائد الجديد!، كان يذكر أشخاصا بأسمائهم وأسرا بمكان سكنهم، ليتم بعدها مهاجمة هذه الأسر، وقتل من وجدوه من الشباب فيها، وليهجروا النساء ثم سرقة كل ما رأوا، ليكون المنزل غنيمة لهم، وربما حرّقوه بعد ذلك.
وصل عدد الأسر التي هجّرت قسرا أن بقوة السلاح حسب إحصائية للمجلس البلدي المنتخب من مدينة بنغازي -والذي هجّر أغلب أعضائه أيضا- إلى 13 ألف أسرة اتجهوا لغرب البلاد.
تقطيع أوصال النسيج الاجتماعي
دخلت المدينة منذ ذلك اليوم نفقا مظلما، كان اعتقال كل معارض للكرامة وقتله سمة بارزة فيه ، بتهمة كونه إخوانياً أو “داعشياً” مع صدور فتاوى من التيار المدخلي تبيح ذلك، ولقد رصدت تقارير دولية تلك الجرائم، وأعرب الكثير عن قلقه واستهجانه، دون أن يحرك أحد ساكنا، لتخلو المدينة بعدها لوجه كبيرهم الذي علمهم الجرم.
أدى ذلك إلى هتك وتقطيع أوصال النسيج الاجتماعي، صار بين الجار وجاره دماء وسرقة وخيانة، بعد مجاورة دائمة الإخاء لعقود، أحدثت هذه النكبة ما لم يحدثها طاغية ليبيا الأسبق، لقد زَرعتْ خلايا الفتنةَ السرطانية التي أفسدت كل مودة بين أهل بنغازي، تروي منى صويد وهي إحدى المهجرات، التي دخلوا على أسرتها عنوة وقتلوا أباها وإخوتها الثلاثة، أن جيرانها كانوا في موقف سلبي من اعتداء الصحوات عليهم، بل منهم من شارك الصحوات في التقتيل والتنكيل، وتضيف ” أدهى الأمر أن أحد الذين حرضوا على قتل إخوتي بكتابة تقارير عليهم شخص تربى بين أسرتي، كان بمثابة أخ لنا، فنسأل الله اللطف في أخلاق هؤلاء، كنا نعايدهم ونشاركهم أفراحهم وأحزانهم، وهم يكنون لنا كل هذه الضغائن”
كان ما يهم مجرم الحرب حفتر هو السيطرة، لا المعالم ولا المآذن، استخدم آلة الحرب لهدم كل شيء يوقف مشروعه، فأضحت بنغازي مدينة الدمار
-تدمير المدينة .إحصائيات صادمة (قتلى الكرامة)
دخلت المدينة دوامة الحرب، التي أهلكت الحرث والنسل، ولم تبق شيئا على ما كان عليه، كان ما يهم مجرم الحرب حفتر هو السيطرة، لا المعالم ولا المآذن، استخدم آلة الحرب لهدم كل شيء يوقف مشروعه، فأضحت بنغازي مدينة الدمار، ومعالمها صارت ركاما بعد عين، ولقد خسر حفتر في هذه المعركة أعدادا هائلة من الجنود الذين لم يهمه عددهم، كان التكتم على أعداد الضحايا جليا من قبل مليشيات الكرامة ورغم هذا تم نشر تقرير يتيم عام 2016 من لجنة الصحة بمجلس النواب المنحل أفاد بأن عدد الضحايا 9352 قتيلا في صفوف عملية الكرامة منهم 7630 مدنيا متطوعا، و1722 عسكريا و21537 جريحاً
-عودة الظلام
إن من أشد ما يقع في نفوس البنغازيين جراء ما نتج من نكبة الـ15 من أكتوبر هو عودة الخوف، وغياب حرية التعبير، فبعد أن استعاد الشعب حريته من ظالم جثم على نفوسهم 4 عقود، وأذاقهم الويلات، وكتم الأفواه، ها هو زمن الظلام يخيم على سماء بنغازي من جديد، لقد عملت مليشيات الكرامة جاهدة في سجن وقتل وتعذيب من تكلم بشطر كلمة عن الظلم الذي وقع فيها، مما جعل الناس يكتفون بالصمت رغم ما يرون من مظالم، ويسكتون رغم حنق الآهات.
قامت الكرامة على أكتافهم وهاهم يطردون ويبعدون وليكتب التاريخ أنهم خانوا بنغازي وعاشوا الذل تحت سياط جلادها الجديد، تركوا ما كانوا يسعون إليه من مناصب وامتيازات لأبناء حفتر وأقاربه ومن يستخدمه لأجل معلوم
-النخب الزائفة
لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصدوق يوم قال “من أعان ظالما سلطه الله عليه”، لقد انقلب السحر على السحرة الذين أقاموه في بنغازي، كل الذين حرضوا وكانوا شرارة ووقودا لاشتعال الحرب في بنغازي، كانوا هم ضحايا حفتر فيما بعد، فكيف كان مصير الحجازي المتحدث الرسمي باسم ما يسمى بعملية الكرامة والذي سجد شكرا يوم نكبة الوطن 15 – أكتوبر ، أين المهدي البرغثي اليوم الذي لم يفتر يفتخر بأنه المفكر والمخطط ل 15 – أكتوبر، أين فرج قعيم، آل بولغيب، محمود الورفلي، سليمان محمود، أحمد العريبي الذي كلفه حفتر بمنصب عميد بنغازي تكريما لما قام به في إعانته، أين مستشار حفتر بويصير، أين نعمان بن عثمان، والقائمة تطول وتطول، لقد أخذوا ووصفوا بما وصفوا به الأبرياء في بنغازي، قامت الكرامة على أكتافهم وهاهم يطردون ويبعدون وليكتب التاريخ أنهم خانوا بنغازي وعاشوا الذل تحت سياط جلادها الجديد، تركوا ما كانوا يسعون إليه من مناصب وامتيازات لأبناء حفتر وأقاربه ومن يستخدمه لأجل معلوم
https://www.youtube.com/watch?v=JiGvqAUtQBs
أنا السيد .. أنا الرئيس
لم يخف حفتر منذ انطلاق عمليته حبه للسلطة والهيمنة، ولكن من يسمون بالتيار المدني عملوا على إخفاء هذه الحقيقة، وما أن تسنى له الأمر وخلا له الحكم، حتى بدأ في ترقية نفسه باسم برلمان منحل هزيل أمام أوامر حفتر، فبعد أن كان لواء صار فريقا ومشيرا، وانتشرت صوره وعلقت في طرقات بنغازي وأزقة البيضاء وشوارع طبرق، تمجيدا وتعظيما، وبات “المطبلون” للقائد الجديد يتكاثرون؛ لحبه لهذا الفعل، فلا يخلو محفل من التمجيد لحفتر وتعظيمه، مما أثار دهشة كبيرة في الوسط البنغازي الذي يرفض العبودية للأشخاص كيف وبنغازي هي شرارة ثورة فبراير الأولى التي خرجت على تمجيد العقيد !
لقد أظهر حفتر نفسه وأبناءه على صورة المنقذ المخلص، وداس على دماء من قتلوا ليرفع اسمه، ونسي ما كان يدعوهم إليه من قبل، أنه رجل مرحلة لا يسعى إلى السلطة، كان يصف كل من اجتمع مع سياسيّي طرابلس بالخونة والإرهابيين، ولكن جلس هو معهم يوم أن رأى جلوسه يقربه من السلطة، اشتاط غضبه من سرقة العقيد فرج البرعصي جزءا من أموال مصارف بنغازي، ولكنه كان راضيا عن سرقة ابنه لمبالغ ضخمة من مصرف ليبيا المركزي ببنغازي، تقلد أبناء حفتر الرتب وحازوا على الامتيازات، بل ذهبوا معه في المحافل الدولية ليستقبلوا في روسيا وغيرها استقبال الدبلوماسيين، وهم الذين لم يشاركوا في أي قتال يذكر، في حين تشتكي مليشياته قلة الحيلة والمال، لا يجدون من يدفع الثمن لعلاجهم، لتتكفل بعلاجهم الحكومة المقترحة وعن طريق وزير دفاعها السابق المهدي البرغثي الإرهابي الخائن كما يصفه أتباع حفتر!
ماذا عن سبب عملية الكرامة ؟ .. التفجيرات والاغتيالات
كانت الاغتيالات والتفجيرات حجة حفتر الأولى والأخيرة، وبها تلقى القبول عند فئة من الناس غرر بها إعلام القائد الجديد، أعادوا وكرروا الأخبار أن سبب هذه الاغتيالات هم فئة وصفوها بالدواعش والإخوان، وقامت ما يسمى بعملية الكرامة وأعلن حفتر تحرير بنغازي تحريرا كاملا “غير منقوص”، فهل توقفت الاغتيالات ؟ هل خمدت العمليات التفجيرية؟
استمرت الاغتيالات والتفجيرات في عهد الكرامة، وانتشر الخطف وإرهاب الآمنين، وطالت حتى المسؤولين وضباط الجيش ولم تترك المدنيين، ففي ولاية حفتر يظهر محمود الورفلي بجانب سيارة “جيب” سوداء ليقتل ملثمين مجهولي الهوية، دون محاكمة ولا مكاشفة عن أسمائهم أو جرائمهم، في غياب تام لدولة القانون التي كان يعد بها، يصلي الناس صلاة العشاء بأحد مساجد بنغازي وتنتهي صلاتهم بتفجير عنيف راح ضحيته مدنيون، لتتلاشى وعود الأمن والأمان التي صدع الإعلام رؤوس الناس بها، اغتيل الكثير دون كشف هوية القتلة، اختطف قسريا العشرات كان آخرهم عميد بلدية بنغازي السابق أحمد العريبي الذي كان من أبرز المدافعين عن عملية الكرامة، ولتقف أمه اليوم في شوارع بنغازي ترفع ورقة تسأل فيها حفتر “أين ابني؟”
وبعد كل هذه الأحداث، يعلو في الأفق سؤال محير، هل وجد أتباع حفتر ما وعدهم حفتر حقا ؟