من خان وزير التعليم؟
أود قبل الاستمرار في هذا العرض، أن أُذكر نفسي والقارئ الكريم، بأن قطاع التعليم قطاع لا يحتمل الصراعات، ولا يحتمل المناكفات، ولا يحتمل التسييس، والكولسة، والاستغلال، والتوظيف لأغراض خارج هذا القطاع، من قبل أي طرف كان، داخل أو خارج دائرة صناعة القرار، في القطاع التعليمي أو من خارجه.
التعليم مسألة أمن قومي
فالتـعليـم جـزء مـن الأمـن القومـي، كـونـه يمثـل مـسـتـقبـل الـوطـن، هـو- بطبيعته – قطاع خاص جداً جداً، وحساس جداً جداً، وقطاع إنساني إلى أبعد الحدود.
مكانة التعليم ومكانة المعلم – بناء على ذلك – تفوق مكانة الطبيب، بالرغم من أن الطب مهنة إنسانية من الطراز الأول، فالطبيب يتعامل مع آلام، مع جسد، مع أعضاء، مع أدوية، لكنَّ المعلم يتعامل مع وجدان، مع عقول، مع نفوس، مع أحاسيس، مع مشاعر، مع إنسان، بكل ما تحمل الإنسانية من عناصر، فالتعليم يهدف إلى بناء إنسان.
لا نتهم نوايا الوزير ولكن ننتقد الأساليب
فمهمة المعلم – مرة أخرى – أكثر حساسية وخطورة وأهمية من جميع العاملين في القطاعات الأخرى، بما في ذلك المهنة الإنسانية العظيمة (الطب) كما نوهنا، مع احترامي – بالطبع – لأهداف ومهام ومكانة كافة القطاعات الأخرى والعاملين فيها، فالمعلم – في النهاية – هو من صنعنا أو هو من أخرجنا.
وفي الوقت الذي نثمن فيه لوزير التعليم عثمان عبد الجليل، نواياه في محاربة الغش والاهتمام باللغات الأجنبية والتركيز على أداء المعلمين، والاهتمام بالفساد في قطاع التعليم، وحصر القبول في جامعات محددة، فإننا نصب النقد على الآلية أو الوسائل أو الطرق التي حاول الوزير (أو الوزارة) تبنيها لمعالجة هذه القضايا الحساسة.
كان على الوزارة الاهتمام بتطوير المعلم
فمتابعة وتقييم وتطوير المعلم – على سبيل المثال – هي عمليات أساسية ضرورية ومنتظمة ودورية (لنفس المعلم)، ومن أهم عناصر نجاح العملية التعليمية، كما تجري هذه العمليات في جميع أنحاء العالم، وبوسائل ومعايير وأساليب أكاديمية ومهنية، متعارف عليها، ومتوفرة في ليبيا، وما كان على الوزارة سوى تطبيقها.
تلك المعايير والأساليب (المتوفرة) كفيلة بتحديد سلبيات وإيجابيات المعلم، وبالتالي توفر نظرة موضوعية حول أداء المعلم، وتوفر نظرة عملية حول كيفية تطويره وإصلاح أدائه.
“ما الفائدة أو الحكمة من وراء تعرض التلميذ للغة أخرى قبل أن يتمكن من أساسيات لغته الأم؟“
الامتحانات – سواء اجتازها المعلم أو لم يجتازها – لا تدل على إبداعه أو فشله في فنون التدريس، اجتيازي لامتحان في مجال تخصصي – على سبيل المثال – لا يعني أنني معلم فعّال أو أنني أُجيد فنون التدريس وأدرك أسرار المهنة.
كما إن إدخال اللغات، وخاصة اللغة الإنجليزية، أمر جيد ومحمود، فمثل هذه اللغات تفتح لطلابنا ملايين البوابات نحو المعارف والتقنية والعلوم والاكتشافات، لكنَّ إدخالها – في مناهجنا – في صفوف مبكرة جدا، أمر يفتح باب التساؤل والجدل والاختلاف.
ومن هذه التساؤلات على سبيل المثال: ما الفائدة أو الحكمة من وراء تعرض التلميذ للغة أخرى قبل أن يتمكن من أساسيات لغته الأم؟ ومن جانب آخر، لا أعلم في العالم دولة تقوم بتدريس تلاميذها لغة ثانية – غير لغة الأم – منذ السنة الأولى الابتدائية، وحتى إن وجدت تلك الدولة، فتظل التساؤلات والجدل حول هذا الأمر قائمة.
“فكيف يتعامل مع التعليم الديني في دولة مسلمة بهذا الشكل؟“
ناهيك عن محاولة التعامل مع النحو بصورة سلبية إلى حد ما، ما اعتبره بعضهم محاربة للغة العربية، خاصة وقد صاحب ذلك، قرار إيقاف التعليم الديني في المرحلة الأساسية (الإعدادي) بسبب إجراءات قانونية ما (بحسب الوزير)، إجراءات كان يمكن معالجتها وحلها والتعامل معها، بأريحية وسهولة ويسر، ما زاد من مشاكل الوزارة، ناهيك عن المعاملة غير المقبولة لطلبة التعليم الديني الثانوي.
فكيف يتعامل مع التعليم الديني في دولة مسلمة بهذا الشكل؟ بينما تَسمح دول غير مسلمة بالتعليم الديني لليهود والنصارى والمسلمين، مدارس إسلامية يديرها مسلمون في دول غير مسلمة (أمريكا، بريطانيا، كندا… إلخ)، تُدرس الدين الإسلامي بجميع فروعه، بل ورأينا – في هذه الأيام – أن على قمة أفضل المدارس في بريطانيا، تأتي ثماني مدارس إسلامية.
“وأستغرب أن يكون إيقاف التعليم الديني الأساسي من الأولويات أصلا“
لقد جلب هذا الأمر للوزارة عداوات وجدلا وصداعا وخصومات، وكانت الوزارة في غنى عن كل هذا، ناهيك عن الاستغراب الذي ما زال يغمر قطاعا عريضا من الليبيين حول الحكمة أو الفائدة من مثل هذا القرار.
وكان الأولى، إن كان هناك ما يتطلب المعالجة الإدارية أو القانونية، أن يتم ذلك على يد الوزارة، مع استمرار التعليم الديني في مسيرته، إلى أن يُسوّى الأمر القانوني ويعالج الأمر الإداري، بل وسيُحسب ذلك من إنجازات وإيجابيات الوزارة.
والأكثر استغرابا أن يُسمح لمدارس في ليبيا، بمزاولة نشاطاتها التعليمية، بينما تكاد أن تُهمش – هذه المدارس – التربية الاسلامية، وهي تعمل مستقلة عن الوزارة، في نفس البلد الذي يُمنع فيه التعليم الديني الأساسي، بل وأستغرب أن يكون إيقاف التعليم الديني الأساسي من الأولويات أصلا.
ليس ذلك فحسب، بل ويسمح لمدارس دينية ذات تيار إسلامي معين، لا يتبع مذهب ليبيا، بمزاولة أعمالها بل وتتلقى – كما تواتر – كامل التشجيع والدعم من نفس الوزارة التي أوقفت التعليم الديني الأساسي.
“المدارس الدينية تعتبر في الواقع، حصنا لأبناء الوطن من الأفكار المتطرفة التي تؤدي إلى إنتاج مخرجات تتبنى التشدد والتطرف والإرهاب“
وهناك بُعد آخر في هذا الأمر، يمس الأمن القومي، وهو أنَّ هذه المدارس الدينية تعتبر في الواقع، حصنا لأبناء الوطن من الأفكار المتطرفة التي تؤدي إلى إنتاج مخرجات تتبنى التشدد والتطرف والإرهاب.
وباختصار شديد، يجب أن نُعلم أبناءنا تحت أسماعنا وأبصارنا، بدلاً من أن يتلقفهم معتوه ما، يعلمهم ديننا بما لا يحمد عقباه، ولقد أشرت إلى هذه النقطة (أن يتعلم أبناؤنا تحت سمعنا وأبصارنا) في إحدى مشاركاتي، منذ أكثر من عقد من الزمان، فلا علاقة لرأيي هذا، بمناكفات أو خصومات أو انتماءات أو صراعات حالية.
نحن إذا، أمام مشهد جدلي متناقض، تشجيع اللغة الإنجليزية مبكرا من ناحية، وسلوك الوزارة نحو مقرر النحو ونحو التعليم الديني من ناحية أخرى.
كما تعاملت وزارة التعليم مع وباء الغش، كحادثة، وظاهرة مؤقتة، وموقف أحادي منفصل عن عوامل أخرى، تعاملت الوزارة مع “الغش” مع ما يجرى حاليا، لكن محاربة الغش، أو بالأحرى القضاء على هذا الوباء، يحتاج إلى خطة إستراتيجية طويلة المدى، بحيث يختفي هذا الوباء من سماء التعليم نهائيا، خطة تشترك فيها الدولة، والوزارة، ومدراء المدارس، والمعلم، وأولياء الأمور.
خطة تبدأ من السنة الأولى الابتدائية إلى أن يتخرج الطالب من الجامعة، نحتاج إلى منظومة تُنهي هذه الظاهرة، لكن الخطوات التي اتخذتها الوزارة تعتبر كمسكن للألم (ولا بأس بذلك مؤقتا)، ولكن تلك الخطوات لا تمثل العلاج النهائي.
وتعاملت الوزارة مع قضايا الفساد كالازدواجية، أو ورود أسماء من غير العاملين، مدرجة في قوائم العاملين، يتلقى أصحابها رواتب بدون عمل، أو غير ذلك من مثل هذه الأمور، بطريقة متسرعة وعشوائية وغير دقيقة.
فتوقيت إعلان أو نشر قائمة إيقاف المرتبات التي تحوي 152958 معلما وموظفا (القرار 1127) فجأة، وأثناء إضرابات المعلمين واعتصاماتهم، يلقي – هذا التوقيت – ظلالاً من الشك حول النية من نشر تلك القوائم، ويؤكد أنَّ الأمر جاء كرد فعل على إضراب المعلمين، وليس بنية إصلاح هذا الأمر أو معالجته.
ناهيك عن عدم دقتها، حيث فوجئ بها معلمون من أكفأ وأخلص المعلمين في ليبيا، من الذين لا يداومون فقط، بل ومبدعون في أداء رسالتهم وأمانتهم، ويحترقون من أجل فلذات أكبادنا، فوجئوا بوجود أسمائهم في تلك القوائم، كما حوت تلك القوائم بعض الأسماء المكررة، وبعض الموتى، وبعض المتقاعدين، وحوت أيضا الكثير من العاملين المداومين المخلصين، مرة أخرى ردود أفعال وتسرع وغياب تام للدقة والموضوعية والمهنية.
أضف إلى كل ذلك، ما يحمله هذا الأمر من خصوصية، فالإعلان علنا، عن الإيقاف عن العمل، أو الطرد، أو إيقاف المرتبات، أو الإقالة (حتى لو يستحق صاحبها ذلك) خطوة جانبها الصواب، خطوة غير مهنية على الإطلاق، وأستغرب أن تُعلن مثل هذه الخصوصيات على النت، ففي ذلك إحراج من جهة، وانتهاك للخصوصية من جهة أخرى، بل وتشهير من جهة ثالثة، وقد باشر العديد من المعلمين – كما تواتر- في مقاضاة الوزارة من أجل رد الاعتبار.
الأمر المستغرب الآخر، أن يتم معالجة هذه الأعداد الهائلة، حزمة واحدة، في وقت واحد، في توقيت حرج، تواجه فيه الوزارة إضرابات واعتصامات في قطاعي التعليم العام والعالي، بالإضافة إلى إقفال المدارس، وظروف الحرب.
فأين كانت الوزارة؟ لماذا لم يُعالج مثل هذا الأمر منذ زمن؟ بدقة وترو وتدرج وخصوصية ومهنية وقانونية، وكل ذلك في صالح قطاع التعليم وفي صالح الوزارة وصالح المعلمين أيضا.
ليس ذلك فحسب، بل إن بعض المدارس التي رفضت أن تقفل أبوابها ورفضت أن تشارك في الإضراب، واستمرت في دوامها الرسمي دون توقف، قررت تلك المدارس أن تقفل أبوابها وتشارك في الإضراب بعد أن نُشرت القائمة الثانية التي تحوي 805 من مراقبي التعليم ومدراء المدارس، والخاصة بــإيقاف موظفين عن العمل وإحالتهم على التحقيق الإداري (القرار 1128)، ما زاد الطين طينا.
ليس ذلك فحسب، بل إنَّ إحدى المدارس التي طالت القائمةُ الثانية طاقمَها، كانت من أفضل المدارس لعامين متتاليتين بحسب معايير ضمان الجودة. وكما سبق، باشر العديد من المعلمين في مقاضاة الوزارة أمام المحاكم الليبية، ما زاد من معاناة الوزارة، بسبب تخبط الوزارة التي كانت في غنى عن المحاكم والاعتذارات واستلام التظلمات.
ولعل المثال الآخر الذي يدل على غياب المهنية: تصريح الوزير بأنه سيجلب المناهج من دولة أخرى (مصر)، وأرى أن في هذا كارثة بل وعدم إدراك لما يعنيه مصطلح “المنهج”، وارتباطه بالمجتمع، وأهداف الدولة، وما تمر به من تغيرات ثقافية واجتماعية وسياسية وسوق العمل ومتطلبات ليبيا.
المنهج أمر خاص جداً، لا يُستجلب من خارج الوطن، ربما يتم استجلاب أدوات، ومقاعد، ووسائل تعليمية، ومصادر، وأجهزة، وتقنية علمية، لكن المنهج لا يُستورد، حتى مناهج اللغة العربية والتربية الإسلامية لا تستورد من دولة مسلمة أخرى.
يمكنك – على سبيل المثال – أن تستورد دبابة أو طائرة أو بندقية أو سلاح ما، لكنك لا تستطيع أن تستورد الجندي، الجندي هنا هو “المنهج”، والسلاح هو “الأدوات”، كما إن الكتب ليست منهجا كما قد يفهم بعضهم، وفي ذلك تفصيل ليس هنا مقامه.
ناهيك عن أن ليبيا، تعج بالعديد من الفطاحل المتخصصين في المجال التربوي بصفة عامة، وفي مجال المناهج بصفة خاصة، وهم قادرون على إعداد المناهج المناسبة لفلذات أكبادنا، والمناسب أيضا لحاضر ومستقبل وحاجة وطننا.
كما يجب أن أشير إلى قرارات متسرعة أخرى وغير مهنية، أولها ما يخص مسألة الترحيل، ومسألة إضافة الــ 25 درجة لبعض التلاميذ المتعثرين، فالترحيل خطوة متقدمة لابد أن تسبقها خطوات، غير متوفرة في منظومة التعليم في ليبيا، فالترحيل جزء من نسيج متكامل، وليس خطوة مستقلة، الترحيل بمعزل عن منظومة متكاملة، يشبه صعود السلم من الوسط أو من درجات متقدمة، ما يجعل منه إضافة كارثية للتعليم في ليبيا.
ويمكن إضافة درجات للتلميذ المتعثر أو الطالب في حالات نادرة مراعاة لأمور مدروسة ومتفق عليها من قبل المدرس وإدارة المدرسة، على أن تكون الكلمة الأولى في هذا الأمر للمعلم من جهة، وعلى أن لا تتجاوز هذه الدرجات أصابع اليد الواحدة.
إن الترحيل دون إعداد الطالب ضمن منظومة تؤهله للتفوق في المرحلة التي سيتم ترحيله منها، والزيادات الهائلة (25 درجة) أعتبره مشروع غش، أو – غش قانوني – مهما كانت النوايا، غش مقنن، تحت سمع
وبصر وحماية الوزارة، في الوقت الذي تحارب فيه الوزارة الغش، ناهيك عما يترتب على هذه الخطوات علميا.
فمن خان الوزير؟
لقد خانته عناصر عدة، ربما يأتي على قمتها الفشل في ترتيب أولويات التعليم، وخانته آلياته أو وسائله التي استخدمها (هو أو الوزارة) في حل المشاكل المذكورة، مع غياب التروي والدقة والحكمة والموضوعية والمهنية في اتخاذ قرارات حساسة، وأعتقد أن تخصص السيد الوزير (دكتوراه في الجينات) عامل آخر زاد من هموم الوزير والمعلم والوزارة، فتخصص السيد الوزير بعيد جدا عن مجال التربية والتعليم، ووطننا يعج بالخبرات والكفاءات في هذا المجال، وربما يُبدع السيد عثمان عبد الجليل في وزار ة أو موقع أو منصب له علاقة بتخصصه.
وحتى استقالته كانت في رأي رد فعل وتسرع، فالسبب الذي ذكره غير مقنع على الاطلاق، ففصل التعليم العالي عن العام (السبب المعلن للاستقالة) أمر فيه خير كثير للتعليم.
كما خانه فوق كل ذلك أسلوبه في التعامل مع مرؤوسيه، من المعلمين والموظفين في قطاع التعليم، حيث طغى على أسلوبه الحدة وردود الأفعال والصدام، كما سمعنا ورأينا علنا على الأقل، في الوقت الذي كرَّم الله فيه معلمي الناس الخير “إنَّ الله وملائكته وأهل السَّموات والأرضين حتَّى النَّملة في جحرها وحتَّى الحوت ليصلُّون على مُعلِّم النَّاس الخير”. والله من وراء القصد.
د. فتحي الفاضلي – 3-11-2019م – طرابلس