جميع الدلائل تشير إلى أن مذبحتي “تدمر” في سوريا، و”أبو سليم” في ليبيا، جرائم مقصودة، مع سبق الترصد والاصرار، وإنهما نتاج لعقلية دموية إرهابية، مريضة واحدة. وأن النظامين، الليبي والسوري، كانا ينتظران حجة ما، لتنفيذ المجزرتين. وأن التشابه الرهيب بين القضيتين، في جميع جوانبهما، يدل على أن هاتين المجزرتين، قد تم تنفيذهما عبر خطوات مدروسة، وعبر برنامج معد مسبقاً.

فقد صدر الحكم بالإعدام على سجناء معتقل “أبو سليم”، قبل المجزرة بسنوات، أي منذ أن طلب معمر القذافي من المؤتمرات الشعبية إصدار قانون “الزندقة”، على اعتبار أن الحركات الإسلامية هي ضرب من الزندقة التي تهدد الإسلام والأمة العربية معا. بل أضاف قائلاً في الخطاب نفسه: “إن من يعتنقها يجب أن يُستباح دمَه”. ليس ذلك فحسب، بل وأضاف: إن على الليبيين أن ينسوا أبناءهم داخل معتقلات النظام، لأنهم كمن أُصيب بمرض الإيدز، أو السرطان، فيجب، بناء على ذلك، سحقهم.

 إن هذا التصريح في حد ذاته، يعتبر حكماً مسبقاً بالإعدام، ونية مبيتة لقتل المعتقلين عمداً، وإشارة من معمر إلى الأجهزة الأمنية والجهات المعنية بالتنفيذ، في الوقت المناسب.

كما صدر حكم الإعدام في سوريا على سجناء معتقل “تدمر”، منذ صدور قانون “التطهير الوطني”، والذي يدل هو الآخر، على نية القتل العمد، وينص على ملاحقة وتطهير “كل منحرف عن المسار، ممن يعتنق مبادئ هدامة تمس الفكر القومي”.

وكان قد أُعلن عن قانون “التطهير الوطني”، عبر خطاب ألقاه رفعت الأسد (قائد سرايا الدفاع الوطني السوري)، والتي تُعرف بـ”سرايا الدفاع عن الثورة والوطن”، والتي نفذت مجزرة “تدمر”، كما سيأتي لاحقاً. وقد اقترح رفعت الأسد، حسب مشروع التطهير، إنشاء معسكرات تدريبية، بغرض تخضير الصحراء، وكان يدعى إلى هذه المعسكرات، كل من تحكم عليه “المحاكم الشعبية” بالتطهير.

والمحاكم الشعبية، هي المحاكم التي تمتلك سلطة القانون (أي قانون التطهير الوطني). وبدلاً من مصطلح “الزندقة”، استخدم النظام السوري، في ذلك الوقت، مصطلح “الهرطقة”، كصفة تطلق على الحركات الإسلامية، والفكر الإسلامي، بصفة عامة.

أما الأسباب المعلنة والمباشرة للمذبحتين، فيفترض أن السجناء في المعتقلَين، أو أتباعهم، قد قاموا بممارسات، أدت إلى استباحة دمائهم، وتصفيتهم تصفية جسدية.

فالسبب المعلن لمذبحة “تدمر” هو محاولة “الإخوان المسلمين” اغتيال “حافظ الأسد”. بينما السبب المعلن لمجزرة “أبو سليم” هو تمرد مجموعة من نزلاء المعتقل، بسبب الظروف المعيشية العامة داخل السجن.

 وحتى لو صح أن الإخوان المسلمين حاولوا اغتيال “حافظ الأسد”، فما ذنب الآلاف من الإخوان المسلمين الذين قُتلوا صبراً وغدراً، بسبب هذه المحاولة الموهومة، وهم مصفدون في الأغلال، على بعد 250 كيلومتراً تقريبا، من العاصمة “دمشق”، داخل المعتقل، محاطون بحرس مدجج بالسلاح. ليس ذلك فحسب، بل لم يسمع، أغلب الذين قتلوا، حتى مجرد السماع، بالمحاولة المزعومة.

 وحتى لو صح، أن مجموعة من سجناء “أبو سليم”، تمردوا احتجاجاً على سوء المعاملة، والتي كانت فعلاً معاملة لا ترضاها الخنازير، فمن التعذيب اليومي، إلى الإهمال الصحي المتعمد، إلى الأمور المعيشية، إلى فقدان أبسط الحقوق التي يتمتع بها حتى الحيوانات – إذا صح أن مجموعة من السجناء- قاموا فعلاً بالتمرد، بسبب تلك المعاملة، فما ذنب الآلاف، الذين قُتلوا في معتقل “أبو سليم”، صبراً وغدراً ، وهم لم يشاركوا في التمرد، ولم يوافقوا عليه، بل ولم يسمعوا به أصلاً. ليس ذلك فحسب، بل حتى المجموعة التي تمردت، تراجعت عن تمردها، وقبلت بالمفاوضات السلمية. فلماذا القتل إذاً!

 كما جرى تنفيذ المجزرتين، في الشهر نفسه من السنة، بل وفي الأيام نفسها من ذلك الشهر تقريباً، فقد جرت مذبحة تدمر في 27 يونيو 1980م، وجرت مذبحة أبو سليم في 28 و29 يونيو 1996م، ولا أظن أن هذا التوقيت كان توقيتا اعتباطياً، وربما ارتبط بفترة الصيف، وخلو المدارس والمعاهد والجامعات من الطلبة، مما يقلل (نسبياً) من ردود الافعال تجاه هذه المجازر، في حال تسرب أخبارهما.

 ومن المعلوم أن شهر يونيو (حزيران)، هو ذكرى انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة (حرب 5 يونيو 1967م) واحتلال الجولان، والتهديد باحتلال دمشق، فالمواطن العربي يتوقع في مثل هذا الشهر من كل عام، أن يقوم النظام السوري القومي، يعاونهم معمر (أمين القومية العربية)، بتحرير القدس والجولان، ولكن، بدلاً من ذلك، يصر النظامان، في هذه الذكرى “المأساة”، على سحق الإنسان العربي المسلم المدني الأعزل، غدراً وخيانة ونذالة.

ليس التوقيت فقط، بل حتى وسيلة تنفيذ المجزرتين، تشير إلى مدرسة إرهابية واحدة، فقد أُمر المعتقلون، بالتجمع في الساحات، وأمام العنابر، وبين القواطع، ثم فتحت عليهم النار، وقتلوا بدم بارد، غدراً.

 فقد تلقت “سرايا الدفاع” السورية أمراً بتصفية سجناء “تدمر” تصفية جسدية. فتوجهت، إثر هذا الأمر، قوة من السرايا المذكورة، وطوقت السجن، واستلم قادة الحملة التاريخية مفاتيح المعتقل، وزودوا بمرشدين على دراية دقيقة بمداخل، ومخارج، وغرف، وردهات السجن. ثم أُمر المعتقلون، بالوقوف أمام عنابرهم، مغمضي العيون، وهم ينظرون إلى السماء. وعندما نفذ المعتقلون هذه الأوامر، فتحت عليهم سرايا الدفاع النار، مستخدمين الرشاشات، والقنابل اليدوية، وقاذفات اللهب. ثم انطلقت القوة نفسها، إلى عنابر أخرى، وقتلت بقية المعتقلين داخلها.

وفي معتقل “أبو سليم”، طلب حراس السجن من السجناء، الخروج إلى الساحات التي تفصل بين قواطع السجن، ففتحت عليهم القوات النار، مستخدمة بنادق الكلاشنكوف ورشاشات الأغراض العامة، وقتلتهم جميعاً.

ليس ذلك فحسب، بل أخذ القتلة، عقب المذبحتين، يركلون جثث الضحايا، للتأكد من موتهم، فان شعروا بان الحياة ما زالت تدب في أحدهم، أطلقوا عليه النار فوراً.

واختلفت الروايات عن عدد الضحايا، فأشارت منظمة مراقبة حقوق الإنسان إلى سقوط 1181 ضحية في تدمر، بينما يقدر عدد ضحايا أبو سليم بـ 1200 شهيد. وتؤكد مصادر أخرى عديدة، أن عدد ضحايا المذبحتين، يفوق ذلك بكثير جداً.

وعقب الانتهاء من المجازر “الثورية”، في البلدين الثوريين، دُفن ضحايا “أبو سليم” في مقابر جماعية، داخل السجن، أولاً، ثم أخرجوا بقايا الجثث لاحقاً، ودفنوها في مكان مجهول. وأقيمت قاعدة خرسانية، على جزء من الجثث التي تعسر نقلها خارج السجن. كما تم دفن ضحايا تدمر، في مقابر جماعية، في منطقة قريبة من “تدمر”، ثم نقلت رفات الشهداء إلى منطقة أخرى، بعد تسرب المعلومات عن مكان دفن الشهداء.

وحتى التخطيط والإشراف على العمليتين تولاهما نخبة من أعمدة النظامين. فقد أشرف “رفعت الأسد” (أخو الرئيس السوري)، على مذبحة تدمر، تعاونه طائفة من أعمدة النظام السوري، في ذلك الوقت. بينما أشرف “عبد الله السنوسي”، عديل معمر، على مذبحة “أبي سليم”، تعاونه طائفة من أعمدة النظام الليبي، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من أعوان النظام ومجموعة أخرى من الحراس والمشرفين على شؤون السجن أثناء المذبحة.

 كما يتبع كل من معتقل “أبو سليم” ومعتقل “تدمر”، إدارة عسكرية أمنية مشتركة (إلى حد ما)، وذلك لمنع الجهات القضائية المدنية من التدخل في إدارة السجن، أو في قضايا المعتقلين، أو في أسباب اعتقالهم، أو موتهم تحت التعذيب، أو بسبب ظروفهم المعيشية العامة، أو المطالبة بحقوقهم في المحاكمة والدفاع.

فسجن “أبي سليم”، يتبع إدارياً، جهاز الأمن الداخلي، بل ويقع داخل معسكر للشرطة العسكرية.

كما يتبع سجن تدمر، في بعض جوانبه، إدارة الشرطة العسكرية والمخابرات العسكرية، فيما يخص السجناء السياسيين. وتقوم قوة من الوحدات الخاصة، بحراسة السجن. كما أن تواجد المعتقلين، في نطاق المعسكرات، يشير إلى نية مبيتة، من النظامين، إلى تواجد قوات مسلحة، قريبة وجاهزة للتدخل، والقمع، وتنفيذ ما تيسر من المخططات الثورية القومية الوطنية، عندما تحين ساعة الصفر.

كما كانت الأغلبية العظمى، من ضحايا المذبحتين من جميع شرائح المجتمع. فمنهم الطالب، والمهندس، والطبيب، والمحامي، والعامل، والفلاح، والقاضي، والكاتب، والمثقف، والمدرس، والعالم، والشيخ، والمفتي، والكهل، والمرأة، والرجل، والشاب، والموظف، والأعزب، ورب العائلة، وغيرهم من فئات وشرائح المجتمع.

وحاول النظامان، إخفاء هذه الجرائم، والتكتم عليها، بما في ذلك بالطبع، عدد الضحايا، وأسمائهم، وأسباب المجزرة. ولكن أخبار المذبحتين تسربت، عن طرق أخرى غير رسمية. فقد تم الكشف عن تفاصيل مذبحة تدمر، عندما اعتقل النظام الأردني، أعضاء من سرايا الدفاع، شاركوا في المذبحة، وقد القى الأمن الأردني القبض عليهم، عندما توجهوا إلى الأردن، لاغتيال “مضر بدران”، رئيس وزراء الأردن في ذلك الوقت.

 وكما لم ينجح النظامان في إخفاء آثار جرائمهم داخل المعتقلات بالكامل، بالرغم من محاولات التنظيف الجادة. فقد أخبر شهود عيان، في تدمر وأبي سليم، عن وجود بقايا من جثث الموتى، وبعض الدماء، على الأرض، والجدران، وفي الردهات، والعنابر، بالإضافة إلى آثار طلقات الرصاص على جدران السجون.

 كما جرت قبل المذبحتين، ترتيبات وتحركات وتنقلات عديدة، تنبئ بالإعداد لأمر ما. فقد تم في تدمر الفصل بين المعتقلين الإسلاميين وغيرهم من ذوي الاتجاهات الأخرى، قبل المذبحة بأسبوعين، كما صدرت الأوامر بنقل المعتقلين الإسلاميين من فروع التحقيق المختلفة إلى سجن تدمر. وحدث  الشيء نفسه في “أبي سليم”، فقد جرت قبل المجزرة بقليل، عمليات نقل للسجناء، من وإلى المعتقل، بصورة مريبة، تدل على أن النظام قد جمع في سجن “أبي سليم” المركزي (الذي تمت فيه المذبحة) كل من أراد التخلص منهم.

 وحتى مطالب الناس في البلدين تشابهت بصورة محزنة. فالناس في ليبيا وفي سوريا يطالبون بالمطالب نفسها تقريبا، ما يدل على بديهية هذه المطالب من جهة، وما يدل على أنها حقوق أساسية من جهة أخرى، يشترك فيها البشر جميعاً.

 الناس في ليبيا وسوريا، يطالبون بالكشف عن القصة الكاملة لهذه المجازر، وعن ملابساتها، والإعلان عن عدد الضحايا، وأماكن دفنهم، وتسليم جثثهم، او بقايا الجثث على الاقل، لعائلات الشهداء، ودفن الرفات كما يليق بالمسلمين من احترام وتقدير لحقوق الموتى، والشهداء، ومحاكمة المسؤولين عن الجريمتين، ومن ضمنهم اللجان الثورية، ولجان القبض، والتحقيق، ومكتب اتصال اللجان الثورية، وطاقم وإدارة السجن أثناء المذابح، والكشف عن أسماء الذين أمروا بتنفيذ المجزرتين، ومارسوا التعذيب داخل السجن، والذين كتبوا التقارير ضد الضحايا، قبل اعتقالهم، وظروف الاعتقال، والتحقيق مع لجان التحقيق التابعة للنظامين، الذين قاموا بتزوير التحقيق.

 كما أن هناك أصواتاً تنادي بالاستعانة بالمحاكم الدولية، ولجان حقوق الإنسان، وهيئة الأمم، ومحكمة العدل الدولية، ومطالبة هذه الهيئات، واللجان بالتدخل، للتحقيق كطرف محايد، بل وباتخاذ إجراءات قانونية دولية ضد النظامين.

إن هذا التشابه، في جميع جوانب القضيتين، يدل مرة أخرى على مخطط مسبق واحد معد ومدروس. ويدل، كما سبق، على نية القتل العمد، مع سبق الإصرار والترصد.

وهكذا..

يخيم علينا الحزن، كلما تذكرنا، أن بعض الذين قاموا بهاتين المجزرتين البشريتين، والذين عذبوا شبابنا، وأذاقوهم الويلات، ثم قتلوهم غدراً وخيانة وصبراً، لا زالوا أحراراً، لم يحاكموا، ولم يقتص منهم، ولم يدفعوا ثمن جرائمهم، بل ما زالوا أحراراً، يتمتعون بالحياة والشمس والهواء، وربما ما زالوا، (حتى كتابة هذه السطور على الاقل) يتمتعون مع أطفالهم واهاليهم وذويهم، بالأعياد والمناسبات والأفراح، وقد تلطخت أيديهم بدماء أولادنا، بينما قتل الحزن حتى الأحياء منا، حسرة على فلذات أكبادنا.

عزاؤنا، أن الضحايا، بإذن الله شهداء، وعزاؤنا أننا لن نتنازل، ما حيينا، عن قطرة دم واحدة، فهؤلاء الضحايا، ملك للوطن، وملك للأمة العربية، والإسلامية، وقتلهم بهذه الصورة، وما تحمله من نذالة وبشاعة وغدر، يعتبر، بجميع المقاييس، خيانة عُظمى للوطن والإنسان والقيم. ولا بدّ من ملاحقة الخونة.

كُتبت في 6 يناير 2008م (قبل ثورة 17 فبراير)، لقد كانت دماء شهداء “أبي سليم”، جزء من الوقود الذي اشعل ثورة 17 فبراير المباركة ان شاء الله. 

مشاركة