لم تكن ليبيا يوما بثرواتها واقتصادها، حين كانت صحراء قاحلة خالية من الموارد التي تجلب دول الاستعمار لاحتلالها، يوم أن تُرِكت وحيدة دون استعمار أي دولة، إلا أن الفاشيست الإيطالي أبى أن يُظهر بطولته وقوته على شعب لم يصل تعدادُه المليونَ نسمة ..
إيطاليا كانت آخرَ الدول التي اقتحمت مجال التوسع الاستعماري، ووجدت ليبيا الجزءَ الوحيد من الوطن العربي الذي تركه المستعمرون الجدد، أضف على ذلك قربهَا المكاني لليبيا، فكانت لهَا هدفًا رئيسا وغنيمة.
في أواخر العام 1911م بدأت إيطاليا حملاتِها لبسط سيطرتها على الأراضي الليبية، دخلت ابتداء بنشر المدارس ودُور العلوم، والحملات التبشيرية، وعملت القنصليةُ الإيطالية كمركز للتجسس وجمع المعلومات ودار لعقد المكائد والأنشطة السياسية. ولم يمر كثير من الوقت حتى اختلقت الذرائع لترسوَ أولُ السفن الحربية الإيطالية على الشواطئ الليبية.
بدأت المعارك الطاحنة، وواجهت إيطاليا شعبا أبيا عصيا لا يعلم للانسحاب والتسليم طريقا، رغم الفارق العظيم في عدد الجنود ونوع الأسلحة والتجهيزات، كانت القوات الإيطالية مؤلفة من 39 ألف جندي، و6 آلاف حصان وألف سيارة، ونحو خمسين مدفع ميداني، وكان في المقابل 15 ألف متطوع ليبي بأسلحة قديمة نسبيا آنذاك وربما بعضهم لا يملك سلاحا ولا مَركوبا.
فرضت القوات الإيطالية سيطرتها على أجزاء كبيرة من المدن الليبية، وبدأت بإجراءاتها التعسفية والقمعية، سلبت ممتلكات الليبيين بالقوة، وصادرت أصول المصارف، ولم تدخر جهدا في إذاقة الليبيين أصناف العذاب، وتركزت حملاتُهُم على المجاهدين المأسورين أو ذويهم وأقاربهم، فسمي المجاهد ( متمردا ) وصوردت كل ممتلكاته “تنفيذا لنظريّة أملاك المتمرّدين وأقربائهم الذين رفعوا السلاح في وجه الجيش أو عرقلوا عمليّاته في حركة الاحتلال” كما أثبت بادوليو الحاكمُ العام لليبيا في تقريره.
ورغم كل ذلك لم يقدم المجاهدون تنازلا، ولم يرض الشعب بالحكم الإيطالي، وإنما استمروا في المقاومة وصابروا على قلة الحيلة وضعف الإمكانات ..
وما أن بدأت الحرب العالمية الثانية، وتحالف الفاشيست الإيطالي مع النازية الألمانية، وجد المجاهدون في ليبيا خيارا في التحالف مع الحلفاء بعد أن أعطت بريطانيا الوعود لليبيا بأن تكون حرة مستقلة بعد انتهاء الحرب.
كانت الشكوك لدى المجاهدين الليبيين تحوم حول بريطانيا وحلفائها، عن نية هذا التحالف تُجاه ليبيا، وما أن انتهت الحرب حتى صَدَقت التوقعاتُ وكان الأمر بأن تسقط بنغازي وطرابلس في أيدي القوات البريطانية، وتسقط فزان في أيدي القوات الفرنسية، لكن الشعب الليبي رفض هذا الاحتلال، حتى خضعت دول الاحتلال بأن منحت لإقليم برقة استقلاله بتاريخ 1 يونيو 1949، ولم يُعجب هذا الانتصارُ الجزئي الليبيين، حتى أُعلن عن دستور ليبيا ثم استقلال كامل ليبيا يوم الـ24 من ديسمبر 1951م.
لم تكن لليبيا موارد كبيرة لتقُومَ دولتُها عليها، إلا أنها بدأت البناء والتعمير، في وسَط نُضج شعبوي وثورة حضارية، إلى أن تم اكتشاف النفط في الصحراء الليبية سنة 1957م، وكان تصديرُ أول ناقلة للنفط عام 1963م، حينها بدأت أطماع الدول تعاود الظهور، وهاجت عاصفة التدخلات في القرار الليبي، وتداخلت الآراءُ وانقسم الناس، حتى تشكلت 6 حكومات مركزية في 6 سنوات تحت النظام المركزي، حينها خرجت مجموعة من العسكريين سنة 1969 م، برتب عسكرية صغيرة، مجهولة الهدف، لا تُعلم الجهةُ الداعمة لها، فقاموا بانقلاب عسكري انتهى بإسقاطِ ِدولة ليبيا تحت حكم عسكري.
عمل الحكم العسكري على محو معالم الدولة الليبية ففي الـ15 من أبريل 1973م عَطَّل الدستور الليبي وكل القوانين، معلنًا الحرب على ما أسماه الدولة الرجعية، وتطهيرَ البلاد ممن سماهم “المرضى سياسيًا أعداء الثورة”، وإعلانَ عصر الثورة الشعبية، حيث كان هذا بمثابة إسقاط دولة القانون في ليبيا، ثم عمل على هدم المنظومة التعليمية، وكان يوم الـ 7 من إبريل سنة 1976م نقطة تحول في كل الجامعات الليبية والمؤسسات التعليمية، فأظهر النظام ما أسماه ثورةَ الجماهير الطلابية الرافضة للنظام الرجعي، ليقتل من شاء من الطلاب ويُسيّر المنظومة التعليمية على عقليته، لتكون ليبيا بعدها من الدول الرديئة في المنظومة التعليمة، ولم يكتف بهذا في تحطيم دولة ليبيا، بل أفشل الجيشَ الليبي واستبدله بكتائب تابعة له تحمي نظامه، وأفسد المنظومات الأمنية واستبدلها بأجهزة اللجان الثورية والأمن الداخلي، حتى أصبحت ليبيا دولة الفرد، المتمثلة في القائد الأوحد.
حينها كان لزاما أن تقوم ثورة أخرى، على اللانظام، ويستعيد الشعب استقلالَهُ ومعالمَ الدولة الليبية من جديد …
جاءت ثورة الـ 17 من فبراير لترد الحقوق وتعلن ليبيا دولة مستقلة من الاستعمار ومن دولة الفرد وحكم العسكر، ولاتزال المؤامرات والتدخلات والأطماع تحيط ليبيا إلى يومنا هذا ..
فهل ستسقط ثانية في يد الاستعمار أو نظام عسكري قمعي من جديد؟ شاركنا برأيك