أيها الليبيون… افسحوا الطريق لفطاحل الليبرالية
1- نحدق كالبلهاء
أخذ أغلب الليبراليين المتطرفين الليبيين على عاتقهم تحريرنا من تسلط الأديان السماوية. وهم يدورون حول هذه المهمة، التي لم يكلفهم بها أحد، كما يدور الثور حول الساقية، مع تقديرنا واحترامنا لذلك الثور، فدورانه سينتهي حتماً بجلب الخير لإنسان ما.
والشيء المحير أنهم يقومون بهذه المهمة الإنسانية بوسائل حضارية عديدة، هي مزيج من همز وغمز ولمز، وإبراز للسلبيات وطمس للإيجابيات، وتسفيه وسخرية واستفزاز، طالت القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومست الصحابة الكرام، عمالقة التاريخ، الذين قادوا أضخم عملية تحرير لم يشهد لها التاريخ الإنساني مثيلا.
والشيء المحير الثاني (ولن يكون الأخير)، أن فقهاء الليبرالية لا يطرحون بديلاً عن تعاليم السماء، أو عن اجتهادات علماء ومفكري الإسلام، بل يقترحون أن نتخلى عن رسالتنا، ثم نقف عند مفترق الطرق نحدق كالبُلهاء في صفحات التاريخ، لعلنا نجد حضارة ما نستعيرها.
مشكلة الليبراليين أنهم لا يتوقفون عن تعليم وإرشاد أمة بكاملها، بما في ذلك علماؤها ومفكروها وفقهاؤها، لكنهم يستشيطون غضباً إذا ذُكِّروا بما قاله الله ورسوله، حتى في أبسط أمور الإسلام، أو تذكيرهم بعلم دنيوي عام بسيط، أو نُبهوا إلى ما غاب عنهم، كما يغيب عن البشر، من أمور، ولقذفوك – إن نبهتهم – بألف تهمة وتهمة، أدناها أنك متزمت، ووصي على هذا الدين، وإقصائي، ومكفر، وفضولي، وواسطة بين الأرض والسماء، ونائب عن الله، وغير ذلك مما جاد به قاموسهم الإرهابي.
لكنهم – مرة أخرى- لا يتوانون عن تعليم وإرشاد أمة بكاملها، ودون حدود، بما في ذلك إرشاد الأمة إلى اغتيال دينها والتخلص من حضارتها. والمشكلة الأخرى، أنهم يستقون معلوماتهم وتحليلاتهم وحججهم من كتب المستشرقين، وغيرهم ممن وظفوا حياتهم للطعن والتشكيك في الإسلام من خلال حوادث محدودة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حوادث من التاريخ الإسلامي، أو من خلال ممارسات بعض المنافقين، أو غير ذلك من توظيف رخيص للوقائع والأمور والأحداث.
وبالرغم من فشل المستشرقين كغيرهم عبر القرون، يأبى بعض الليبراليين (العرب بالذات) والقوى اللادينية المتطرفة، إلا أن يجتروا نفس التحليلات والاستنتاجات والحجج والبراهين التي توصل إليها أسلافهم من المستشرقين والتي دُحضت دون عناء يذكر.
أما لماذا يتطوع الليبراليون بهذا العمل “الصالح”!! أي لماذا يصرون على تحريرنا القسري من قبضة السماء؟ فهذا هو اللغز الذي نود أن نفك طلاسمه معاً، عبر استعراض سريع لمفاهيم وخطاب القوى الليبرالية الليبية، وخطاب القوى اللادينية لاشتراكهم في أمور عديدة.
(2) – مزبلة ليبرالية
لقد استطاع فقهاء الليبرالية ومعهم فطاحلة القوى اللادينيون – وبعبقرية نادرة ندرة منطقهم- اختزال أربعة عشر قرناً من الحضارة الإسلامية بجميع إسهاماتها، من قيم إنسانية عظيمة، وعلوم وأبحاث، وفنون وإبداعات، وآمال وآلام، وطموحات وأحلام، وهزائم وانتصارات، وتداعيات وإرهاصات، ونجاح وإحباط، وسقوط وصعود، وتقدم وتراجع، أربعة عشر قرناً من الحضارة الإسلامية، استطاعوا أن يختزلوها في خليفة يرتدي عمامة، ويرافقه سياف يحمل سيفاً ونطعاً، مع كوكبة من العبيد والجواري، وفقيه منافق، يتبعه (تبعية عمياء) ملايين المسلمين يسمعون ويطيعون ولا يعارضون، يحملون المباخر، ويسيرون كالقطيع، أينما أراد لهم ذلك الفقيه المنافق أن يسيروا.
يقترح الليبراليون “مشكورين” أن نرمي بتاريخنا وتراثنا في أقرب مزبلة ليبرالية، ونستعير بدلاً من ذلك، تاريخ وعادات وأعراف “أقوام آخرين”. ذلك بالرغم من أن “الأقوام الآخرين” يغرفون من كنوز ثقافتنا وعلومنا وتراثنا وحضارتنا بصفة عامة، ويقدرونها أيما تقدير، بل ويبرزونها بإعجاب في أرقى جامعاتهم وكبرى معاهد أبحاثهم ومحافلهم الثقافية بعيداً عن ضجيج الصراعات السياسية، ويعتبرونها إسهاما إنسانيا لا يكتمل التاريخ إلا به. ليس ذلك فحسب، بل يقدرون الصحابة الكرام والتابعين وتابعي التابعين وعلماء المسلمين وفلاسفتهم ومفكريهم، ويقدرون كذلك اكتشافاتهم وفنونهم وإبداعاتهم.
يدعوننا الليبراليون – إذا- إلى أن نتخلى عن حضارتنا (مدنيتنا وثقافتنا) ونستعير بدلاً منها مكونات حضارات أخرى، لا تتنكر هى نفسها لحضارتنا. ويكون الليبراليون بذلك كالعميل المتطوع، الذي لا يشبع من تقبيل أقدام أسياده، فتراه يلهث ليرضيهم بشتى الوسائل دون أن يرضوا عنه.
يصر فلاسفة الليبرالية على ذلك لأن مفهومهم للتاريخ مفهوم سطحي محصور في حوادث انتهت مع الوقت، بينما يعتبر التاريخ في المفهوم الإسلامي، مرجعية ونبع لا ينضب من القيم والدروس والمثل، وأن القيم في المفهوم الإسلامي لا تتغير ولا تتأثر ولا تتبدل بمرور الزمن فالحب والكرم والمروءة والشجاعة والصبر والثبات والتفوق والإبداع والعدل والأمن والأمان والحرية والمساواة، قيم ثابتة لا تتغير (مفاهيمها وأبعادها) بتغير الزمان والمكان، وكذلك الغدر والظلم والشر والاستعباد والخيانة والقهر والعنصرية والعصبية والاضطهاد.
والتاريخ – من جهة أخرى- دورات تعيد نفسها، وأن لهذه الدورات عوامل ثابتة إذا توفرت أو غابت تحقق معها صعود أو سقوط الحضارات، وإذا تكرر غيابها أو توافرها تكرر صعود أو سقوط نفس الحضارات.
التاريخ الإسلامي – إذاً- نموذج حي، يعكس الجانب العملي لفكرنا وثقافتنا وتراثنا، لا مجرد حوادث ميتة، وهو أيضا مصدر حقائق لا منبع خرافات، ومصدر قوة نغرف منه عند الأزمات، ونتخذ من وقائعه وقوداً لمواصلة المسير نحو المستقبل، فكيف يكون النموذج العملي لخطابنا النظري مصدراً وسبباً لضعفنا وتخلفنا؟!
ولم تتوقف عبقرية الليبراليين عند هذا الاختزال الإقصائي، بل اكتشفوا أن جميع العلماء ورجال الدين والفقهاء منافقون يُظهرون ما لا يُبطنون أو أنهم علماء سلاطين.
ولكي يتم تحريرنا من تسلط الأديان، وبالتالي من تسلط السماء، لابد أن نشنق آخر فقيه بأمعاء آخر خليفة، ثم نتخذ من فقهاء الليبرالية مرجعية لأمتنا. فالليبرالي لا يمكن أن يكون من المنافقين، لأنه – ولسر ما – “معصوم” من هذا التلوث.
(3) – المسلم لم يخلق من طين
كلما اصطاد الليبراليون العرب – من بين دفات الكتب- ما تيسر من حوادث وفتن وصراعات بين المسلمين، كحديث الإفك، والفتنة الكبرى، ووقائع سقيفة بني ساعدة، ووقائع وأحداث جرت في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وحتى عصرنا هذا.
كلما اصطاد الليبراليون العرب شيئاً من هذا، كلما استبشروا بصيدهم خيراً، وأصاب الإسهال أقلامهم، وانطلقوا يصنعون من هذه الأحداث قواعد وظواهر وأصولا، ولا ينظرون إليها كاستثناءت وأحداث وفروع، بل يوحون بأنها “أدلة دامغة” على تناقض هذا الدين وتناقض أتباعه.
فالمسلم في الفقه الليبرالي، لم يخلق من طين، بل جماد لا عواطف له، أو ملاك معصوم من الخطأ، فيجب – بالتالي – ألا يحدث بين المسلمين ما يحدث بين غيرهم من البشر من منازعات وحروب وصراعات.
يتناسى الليبراليون أننا من البشر، رغم أن هذا الأمر لا يقبل حتى النسيان العفوي، وأن هذه البشرية مقصودة بكل ما تتطلبه من تفاعلات وممارسات من خير وشر، وقوة وضعف، وصدق ونفاق، وصلح وخصومات، وضلال وهداية، وانحراف وتوبة، وهدم وبناء، وتردد وإقدام، وشح وكرم، وترقب وحذر، وخوف وشجاعة، وهلع وجزع وثبات، وجدل وحوار، وفشل ونجاح، وعواطف وأحاسيس، واجتهادات، وغير ذلك مما يلازم الطبيعة البشرية.
هنا يفوت الليبراليين أن أساطين مكة تساءلوا عن بشرية الرسول (وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) الفرقان الأية 7. و(قُل لَّوْ كَانَ فِى ٱلْأَرْضِ ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولًا) الإسراء الأية 95، وقوله تعالى و﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ﴾ الاسراء الأية 93.
كما جاء التأكيد على ذلك في قوله سبحانه وتعالى: ” وإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنۢ بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى ٱلْأُخْرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا)، الحجرات الأية 9، هذه الآيات الكريمة – وكثير غيرها – بالإضافة إلى العديد من الأحاديث الشريفة فيها ما يدل صراحة على أن المنازعات والفتن والاختلافات، أمر وارد بين المسلمين، على أن يصاحبها الحث على الصلح وعدم الحرص على القتل، والتحيز إلى جانب الحق بناءً على اجتهاد أو اعتقاد صادق بذلك.
ومن جهة أخرى، فإن جميع قوانين العقوبات التى وردت في القرآن الكريم، جاءت أصلاً لتطبق على المسلمين. بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يدرك أن المسلم بشر يخطئ ويصيب، وينحرف ويتوب، ويختلف مع غيره، فيخاصم وينازع، ويرفض ويوافق.
فمن أين أتى الفقه الليبرالي ومن أين أتت القوى العلمانية واللادينية بالمسلم “الملائكة” أو “الآلة” الذي لا يحاور ولا يرفض ولا يختلف مع غيره. أم أنهم يدركون أننا من البشر، ولكنهم يستغلون المنازعات واختلاف الاجتهادات والخصومات والحوادث والفتن والإشاعات للطعن في رسالة الإسلام!!
(4) – الرقص خارج فضاء التاريخ
شبهة أخرى يحاول دهاة وفطاحلة الليبرالية العرب وقادتها ومفكروها أن يلفتوا انتباهنا إليها، وهي أن التفوق الإسلامي والنماذج الحضارية الإسلامية التي تحققت على أرض الواقع، عبر فترات مختلفة من التاريخ، ما هي إلا طفرات توفرت لها ظروف معينة فتحققت لفترات زمنية قصيرة.
منهم من يحصرها في فترة النبوة والخلافة الراشدة، ومنهم من تغمره موجة من الكرم الحاتمي فيضيف إلى ذلك بعض الأيام والساعات والسنين، ومنهم من يلغي – بشح مطاع – وتحت تأثير إلهاماته الليبرالية حتى بعض فترات الخلافة الراشدة.
وخطورة هذه الشبهة، التي يتراقص حولها الليبراليون طرباً، لا تنحصر في كونها قراءة تاريخية قاصرة، أو طمساً فكرياً أو ثقافياً آخر، أو تزييفاً سطحياً، لكن الأمر أخطر من ذلك.
إن هذه الشبهة طعن في صميم رسالة الإسلام، فالرسالة التي يفترض أنها طبقت ونجحت في فترات قليلة جدا، والتي لا تقبل الإسقاط على واقع البشر في كل زمان ومكان – حسب ادعائاتهم – أو يستحيل تطبيقها مستقبلاً، ستتحول – مع الزمن – إلى مجرد نظرية ستندثر حتما أو ستصبح في أفضل الأحوال، إبداعات إنسانية مخزنة في بطون الكتب، أو محفوظة في المتاحف.
هو إذا طعن في واقعية الرسالة الإسلامية وليس مجرد تحليلات تاريخية خاطئة، لذلك كانت لنا وقفة عند هذا الأمر.
ولنا هنا وقفة… فقد شهد التاريخ الإنساني تفوقاً إسلامياً في جميع فتراته، وإن اختلفت مظاهر ومستويات وعمق هذا التفوق. فكان تفوق الإسلام تفوقاً شاملاً في عهد النبوة والخلافة الراشدة، وتفوقاً كبيراً جداً – وإن لم يكن شاملاً – في العهد الأموي والعباسي والعثماني، رافق ذلك – ومن فترة إلى أخرى- تفوقاً جزئياً في مجالات ثقافية أوعسكرية أوعلمية أو دعوية، بالإضافة إلى بروز إسلامي مميز في فترات عديدة تخللت فترات الانحطاط.
وكانت بصمات الإسلام – حتى في فترات الانحطاط – تفرض نفسها على مسرح الأحداث اليومية منذ بداية الرسالة إلى يومنا هذا.
فما يحدث اليوم – على سبيل المثال فقط – من تفوق للإسلام في عدد معتنقيه على غيره من الأديان، وفي ظل هذه الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين، وحقيقية أن الدين الإسلامي الأكثر اعتناقا اليوم، يعتبر كل ذلك تفوقا حضاريا، كما عودنا الإسلام حتى في أحلك الظروف.
استيراد عام: ولكي يتم إقناعنا بتخلف الأمة – عبر تاريخها المتخلف افتراضا – وضرورة البحث عن فكر آخر يخرجنا من هذا التخلف، حدد الليبراليون ومعهم العلمانيون واللادينيون العرب وبصفة عامة، مدى تقدمنا وتأخرنا عبر مقارنة أوضاعنا بأوضاع أمم وشعوب غير إسلامية وغير عربية.
واستوردوا لهذه المهمة “النبيلة” مصطلحات من قواميس لا تنتمي إلى ثقافتنا، اتهمونا ووصمونا بها، وهي لا تنبع من تاريخنا، منها على سبيل المثال: “صكوك الغفران” و”محاكم التفتيش” و”أفيون الشعوب” وغير ذلك من مفردات سنرى الكثير منها فيما بعد.
وهي مفردات ذات دلالات خاصة لملل أخرى مرت بوقائع وأحداث جعلت من هذه المفردات جزءا هاماً من ثقافتها. فلم يوزع المسلمون يوما “صكوك غفران” ولم يقيموا “محاكم تفتيش” ولم يكن الدين الاسلامي “أفيونا للشعوب”.
واعتماداً على تلك المعايير المستوردة، تم تصنيفنا ضمن فصيلة المتخلفين، يصاحب هذا التصنيف – ومن حين إلى آخر- رائحة ترفع على أهل الريف والبدو والصحراء والأحياء الشعبية بصفة عامة.
وما يحزننا هنا ليس تقييمنا في حد ذاته، بل ما يحزننا هو أن مقاييس ونماذج ومعايير التقدم والتأخر التي استخدمت لتقييمنا كمسلمين مستوردة من خارج إطارنا الفكري والثقافي والتاريخي، ولو كانت مستوحاة من أصولنا وتاريخنا، أو من مسيرة أبناء جلدتنا في أي مكان أو زمان، لما كان في ذلك ضير.
كمقارنة أوضاعنا الحالية – على سبيل المثال – بما يجب أن نكون عليه حسب تعاليم إسلامنا، أو بما يجب أن نكون عليه مقارنة بفترة تربع فيها الإسلام على القمة.
لكن أن تُعامل أمتنا كعالة على التاريخ، أو كأمة لقيطة جدباء خاوية، أو كقوم انتهازيين سراق قساة ظالمين جهال يقيمون محاكم التفتيش ويوزعون صكوك الغفران. فهذا طمس آخر لن يمر علينا بسهولة.
(5) – بين كاسترو والشيخ البشتي
ينصحنا الليبراليون العرب والليبيون – طبعاً بكل حرص ومحبة وإخلاص – أن نحفظ أغلب تعاليم الاسلام في ثلاجات ضخمة، انطلاقاً من “حقيقة” الانفصام الأبدي بين الإسلام ومصالحنا الدنيوية المشروعة. ثم ينصحوننا، كلما برزت مستجدات تتعلق بحقوقنا وحرياتنا واقتصادنا ومصيرنا، أن يتراجع العلماء والأئمة ورجال الدين والملتزمون، ويفسحوا الطريق أمام فطاحل الليبرالية لمعالجة هذه المستجدات، لأن معالجتها تحتاج الى عقول “نظيفة تفهم في السياسة”.
ثم اذا استجد أمر ذو علاقة بالآخرة والغيب والسماء، يتم تبادل الأدوار فيتراجع الليبراليون، ويحل محلهم الإسلاميون. وهكذا دواليك في دورة لا يمارسها إلا المجانون، لأنها تعكس – إن سلمنا بها- درجة من الغباء النادر جداً في إدراك قوة الإنسان ومقدراته وطاقاته وإمكانياته وإبداعاته، كما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى أولاً (إني جاعل في الأرض خليفة.. البقرة/30) وقوله تعالى (.. ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً… الإسراء/70) وقوله تعالى (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.. الجاثية/13)، ثم ما أثبته التاريخ الإنساني ثانياً.
لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الإنسان قادراً على التعامل مع تعاليم السماء، وقادراً في نفس الوقت على التعامل مع الوقائع والأحداث الدنيوية، بينما يصر أساتذة الليبرالية على غير ذلك.
وانطلاقاً من المفاهيم السابقة، حسب جماجم الليبراليون العرب، والعرب فقط، لا يعتبر النضال الإسلامي نضالاً، فالشهيد الشيخ البشتي – على سبيل المثال – والذي جدد صولة الإمام أحمد بن حنبل، فصدع جهاراً نهاراً بخطاب سياسي يضاد خطاب النظام، بينما لا يفصله عن المركز الرئيسي للجان الثورية سوى جدار المسجد الذي زلزل الشيخ البشتي من على منبره الشارع الليبي.
هذا الرجل الذي بلغ من العمر عتياً وصدع بما صدع به من على منبر بيت الله في قلب طرابلس، والمحاصر من جميع الجهات بمباني الأمن واللجان الثورية والمخابرات، هذا الرجل الشهيد ليس مناضلاً سياسياً – حسب التصنيف الليبرالي واللاديني- بل رجل دين يخلط السياسة بالإسلام، أو يخلط الإسلام بالسياسة.
وكذلك الشهيد محمد مصطفى رمضان ونضاله بالكلمة واستشهاده ثمناً لذلك، والشهيد أحمد حواس، ومجموعة بدر، ومجموعة فبراير، وحركة الشهداء، وجميع التيارات الإسلامية الأخرى. وغيرهم من شيوخ وشباب ليبيا الملتزمين، كل حسب جهده وأساليبه ومدرسته، من الذين استشهدوا، أو من أولئك المكدسين في حفر وسراديب النظام الليبي، هؤلاء جميعاً، حسب الفقه الليبرالي واللاديني، خلطوا تعاليم السماء بتعاليم الأرض، وليست فئة أرادت أن تغير واقعاً سياسياً ما، لكن كاسترو وكمال أتاتورك وفرانكلين بنجامين وغيرهم، مناضلون شرفاء وسياسيون وطنيون وأبطال، فبأي منظار ينظر الليبراليون!!!
وانطلاقاً من المفاهيم السابقة أيضاً، يصر فقهاء الليبرالية على ضرورة فصل الإسلام عن حياتنا لعدم صلاحيته. أما الدليل “الخطير” على ذلك، فيقدمونه لنا على هيئة طلسم، علينا نحن المسلمين السذج أن نفكه أو نبلعه.
فقد اعتبر الليبراليون أن بعض الحكومات التي تظهر تقديراً ًواحتراماً ظاهرياً لأركان الإيمان وأركان الإسلام وقوانين الأحوال الشخصية وكل ما يخص الأمور التعبدية – اعتبروا تلك الحكومات وبغباء معتق – نموذجاً للدولة الاسلامية.
وكلما مارست الأنظمة الفاسدة المشار إليها؛ ما تيسر من عنف واضطهاد وفساد وتعذيب وكبت للحريات وتوجيه للفتاوى، اتخذ الليبراليون من هذه الممارسات دليلاً على عدم صلاحية الإسلام كقاعدة لتأسيس دولة. وذلك بالرغم من أن بعض تلك الأنظمة الملكية أو العسكرية أو الجمهورية منها، في الخليج العربي، أو الشمال الإفريقي، أو في آسيا أو أفريقيا، تنظر إلى الإسلام عدوها الأول.
بعضها يحترم جزئية من الإسلام ويتغاضى عن غيرها، وبعضها لا يطيق سماع لفظة الإسلام، وبعضها – كما ذكرنا- يظهر درجة أعلى – نسبياً – من التقدير والاحترام لشعائر الإسلام، فكيف يتهم الاسلام بممارسات قامت استناداً على فكر أو نظام أو رؤية سياسية لا ترى في الإسلام عنصرا مفصلياً في إدارة الدولة.
ولا يسعنا أمام هذه المنهجية الليبرالية التي استطاعت أن تربط الإسلام السياسي بممارسات الأنظمة العربية القائمة، إلا أن نقف عاجزين أمام هذا الطلسم ونقول بكل استسلام (.. وفوق كل ذي علم عليم) .. يوسف/76.
(6) – غبش
الليبراليون العرب، والعرب فقط، يدندنون بسخرية حول خلو الفكر الإسلامي من مكونات “المجتمع المدني” وحول غياب القانون، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، بما في ذلك حقوق المرأة والعدل والمساواة وحرية الرأي والتعبير. يروجون لذلك وكأنهم لا يخاطبون المسلمين، بل يخاطبون “التتر والمغول” عندما كانوا في أوج وحشيتهم، قبل أن تستوعبهم الحضارة الإسلامية “المتخلفة” ويصبحوا أحد مكوناتها ويسلموا جميعاً ويصبحوا خير سند لهذه الامة.
تجاهل الليبراليون – ولا أظنهم من الجهلة – أنهم يخاطبون أمة صاغ نبيها ميثاق دولة المدينة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، والذي نظم به أعقد مجتمع في التاريخ الإنساني، مجتمع المدينة، مجتمع جمع خليطاً عجيباً من أفكار وطوائف وديانات وعداوات وصراعات قبلية وسياسية وثارات وسفك دماء وغزو وانتهاك أعراض وسلب. ناهيك عن أفواج المنافقين والمصلحيين والانتهازيين وقطاع الطرق.
استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم تنظيم هذا المجتمع وتحويله إلى مجتمع يسوده الأمن والأمان والسلام، وذلك في فترة وجيزة، وببنود محدودة، لكنها بنود رائعة شاملة محكمة، ضمتها “وثيقة المدينة”. بينما عجزت الأمم المتحدة وما يسمى بالجامعة العربية ومجلس الأمن والمنظمات العالمية والمجتمع الدولي ودول عدم الانحياز ودول الانحياز والعرب واليهود والعجم وحلف الأطلسي ومجالس التعاون ودول الصمود والمغرب العربي والمشرق العربي ودول الخليج، عجزوا جميعهم ولأكثر من نصف قرن عن حل قضية فلسطين، بل نراها تزداد تعقيداً يوم بعد يوم، أفلم يأن لليبراليين أن يزيلوا شيئاً من هذا الغبش؟
ولا يفوت الليبراليين، عند الحديث عن حقوق المرأة، التنويه إلى بغضنا واستعبادنا للمرأة، وخاصة أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا. فينصحوننا “زادهم الله حرصاً” أن نقلل من ساعات وجود النساء في المنزل، وأن نخفف – بالمرة – من كمية ونوعية ملابسهن، وخاصة في منطقة الرأس والساقين والقدمين.
فالإسلام – حسب التأويل الليبرالي العربي – لا يعترف بحقوق المرأة. يقولون ذلك، بالرغم من أن الإسلام دين كان أول من آمن به امرأة، وأول من استشهد من أجله امرأة، ودين فيه الجنة تحت أقدام الأمهات، ودين فيه من ربى اثنتين أو ثلاثة من بناته تربية حسنة دخل الجنة، ودين النفقة فيه على الرجل حتى ولو ملكت الزوجة مال قارون، بل ولها مع ذلك حقها ونصيبها في الإرث، ودين لم يذكر في كتابنا الكريم الرجل إلا ذُكرت معه المرأة (المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات…)، ودين يطبق فيه قانون العقوبات على المرأة والرجل بالتساوي، ودين أوصانا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على الأم ثلاثة أضعاف ما أوصانا فيه على الأب، ودين يمنعنا من أن نتفوه بما يحزن آباءنا وأمهاتنا أو بما يمس مشاعرهم بسوء ولو بلفظة “أف”، ودين يمنعنا – في أغلب الأحوال – من ممارسة الجهاد (ذروة سنام الإسلام) دون أن نستأذن من آباءنا أو أمهاتنا، ودين جاء فيه أنه لا يهين المرأة إلا لئيم.
بل أنزل الله سبحانه وتعالى آيات برأت أم المؤمنين، واستمع الله سبحانه وتعالى إلى مجادلة امرأة لزوجها، وأنزل سبحانه وتعالى في ذلك آيات كريمة، ودين أوصانا فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم في أحلك ظروف الأمة واستعدادها لتوديع سيد الخلق بالنساء، فلم ينس في خطبة الوداع صلى الله عليه وسلم أن يًذكرنا قائلاً: (استوصوا بالنساء خيرا)، بل ودين صنف عقوق الوالدين، ومنهم الأم، بعد الشرك بالله مباشرة، فأي تكريم بعد هذا، وأي درر وكنوز وجواهر وعظمة لا تنتهي من القيم الحضارية الإنسانية تجاه المرأة، فبماذا يهذي فطاحلة الليبرالية؟!!!
وتناسوا عند الحديث عن حرية الكلمة، أنهم يخاطبون أمة ذات دين أعطى الله فيه حرية الكلمة للشيطان، ودين يدعو إلى تغيير المنكر باليد والقلب واللسان، ودين يضع كلمة الحق في وجه سلطان جائر في أعلى درجات الشهادة. ليس ذلك فحسب، بل إن حرية الكلمة حق في جميع الحضارات، حق يمكن للمواطن ممارسته أو التنازل عنه حسب إرادته. لكن حرية الكلمة في الإسلام “حق” و “واجب” لابد من ممارسته. وهنا تتفوق الحضارة الإسلامية مرة أخرى في مجال حساس من مجالات حقوق الإنسان، ظن الليبراليون أنه يمثل ثغرة سيؤكل منها الإسلام السياسي بسهولة ويسر.
وتجاهلوا حرية الرأي والتعبير وحرية الإرادة في الإسلام، والذي اعتنقه سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه وهو في أشد حالات الغضب مما فعل أبو جهل بالرسول صلي الله عليه وسلم. وعندما أدرك سيد الشهداء أن إسلامه كان عن حمية وغضب وعصبية (ولا أحد غير الله ثم سيد الشهداء يعلم بذلك)، عاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه بذلك.
وهكذا، موقف فيه قمة الصدق مع الله سبحانه وتعالى ومع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع النفس. ثم أسلم حمزة – رضي الله عنه – بعد ذلك عن قناعة، أسلم حمزة وفي يده السيف ولم يُسلم والسيف مسلط على رقبته، وكذلك فعل الصحابة الكرام، جميعهم، آمنوا وفق إرادتهم وهم أسود ترتعب منهم الصحراء وما حوت، قوة وشجاعة وفروسية، فطنة وذكاء وكرم، آمنوا والسيف في أيديهم لا في أيدي غيرهم، فهل – بعد هذا – من حرية فكرية، وحرية إرادة، وحرية رأي واختيار وتعبير !!!
وتجاوز الليبراليون روائع حضارتنا في مجال العدل والمساواة، عبر طمس آلاف القصص التي تثبت تفوق حضارتنا في هذا المجال، ومنها على سبيل المثال، جلوس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين (القائد الأعلى) في محكمة مع يهودي قاضاه علي رضي الله عنه في درع، فجلس أمير المؤمنين في قاعة المحكمة بجوار اليهودي، وقبل علي رضي الله عنه قرار القاضي الذي أصدر حكماً لصالح اليهودي، لأن خليفة المسلمين “الظالم” و”المتسلط” و “المستبد” لم يأت بدليل يثبت ملكيته للدرع، ذلك بالرغم من أن علياً رضي الله عنه هو الذي رفع الدعوى، وبالرغم من أن علياً رضي الله عنه هو الذي عين القاضي في منصبه.
فكيف يُظلم الآخرون تحت حكم الإسلام، وكيف يُسحق غير المسلم في المجتمع الإسلامي، بل إن للذمي في الدولة الإسلامية حقوقا لا يتمتع بها مواطنو الدول الليبرالية. فمن أين أتى الليبراليون بخرافة الاضطهاد الذي يتعرض له غير المسلمين تحت مظلة الدولة الإسلامية. بل كان أهل الملل والنحل يهاجرون إلى الدول الإسلامية أينما وجدت، لإدراكهم أن حقوقهم مكفولة ومحمية بقوة الدولة.
ووفر الإسلام (فكرا ودولة) حق اللجوء والإقامة والمواطنة ليس فقط لأفراد ومجاميع محدودة العدد، بل لقبائل وأمم وأهل ديانات كاملة هاجروا إلى دول إسلامية، بقضهم وقضيضهم، مما مثل أكبر حركة لجوء في التاريخ.
فكيف يدعي الليبراليون بأن أهل غير الإسلام يُسحقون تحت الدولة الإسلامية، وهل يعقل أنهم يجهلون القوانين الإسلامية الدقيقة التي تنظم مثل هذه الامور!! أو يعقل أنهم لم يسمعوا أو يقرأوا عن قانون الذمي في الدولة الإسلامية، أم أنهم يقرأون بنظارات ليبرالية!!!
بل أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء لحفظ حقوق الناس وإقامة العدل وتكريم الإنسان “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ” الحديد، الآية 25. وقوله تعالى “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” الإسراء، الآية 70، فالإنسان في الإسلام هو أصل الرسالة ونواة الحضارة.
وسن الإسلام – فوق ذلك – قوانين لحماية الموتى وحماية قبورهم أيضاً، كما سن القوانين لحفظ حقوق الحيوان، فحرم تعذيب الحيوان وجعل في كل كبد رطبة أجرا، فكيف يتبجح دهاقنة الليبرالية بغياب حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي!!!
وأمتنا ذات قانون سماوي أنزله الله سبحانه وتعالى لحماية خمس قضايا مصيرية (مقاصد الشريعة)، شملت العقل والمال والعرض والنفس والدين، فأمتنا ليست فقط أمة قانون، بل أمة القانون.
لكن الليبراليين واللادينيين لا يبرزون – عند حديثهم عن الإسلام – إلا قوانين العقوبات، وخاصة الحدود. بينما يتحدثون – وبإسهاب عجيب – عن الجوانب الفكرية والثقافية والممارسات الديمقراطية للأمم الأخرى، دون التركيز على قانون العقوبات فيها، بالرغم من أن قوانين العقوبات صارمة عند جميع الدول دون استثناء.
لقد شاهدت – على سبيل المثال – عملية إعدام بالكرسي الكهربائي مسجلة على شريط مرئي، في دولة يعتبرها الليبراليون مثلاً أعلى للمجتمع المدني، ومثلاً أعلى لاحترام حقوق الإنسان، حيث أخذ المحكوم عليه بالإعدام ينتفض لمدة طويلة من شدة الكهرباء حتى خرجت أنسجة دماغه من أنفه وفمه، وقد كانوا يتوقعون موته بأسرع من ذلك. كان المشهد مرعباً حقاً. والشريط متوفر في الأسواق. وغير ذلك الكثير من آلاف الأمثلة التي تصب في هذا الإطار، ناهيك عما يحدث في الدول التي لا تحترم حقوق الانسان.
لكن سادة الليبرالية والقوى اللادينية لا يشيرون – كما ذكرنا – من بعيد أو قريب إلى مثل هذه الأمور. وحصروا الإسلام بكامله في قوانين العقوبات، ثم حصروا قوانين العقوبات في الحدود، وجعلوا من هذه الحدود مدخلاً لنجواهم وأحاديثهم وحواراتهم حول الإسلام، يبدأون بها وينتهون عندها.
ولا يشيرون – كما ذكرنا – إلى الجوانب الفكرية والثقافية وجوانب الحرية والعدل والأمن والأمان والازدهار والشورى وحقوق الإنسان في الإسلام، فيطمسون بذلك روائع الإسلام ويبرزون قوانين العقوبات فيه، بينما يبرزون إيجابيات الحضارات والثقافات الأخرى. وذلك بالرغم من أن قوانين العقوبات في الإسلام، هي قوانين مانعة رادعة، تدفع الإنسان إلى أن يفكر مليون مرة ومرة، قبل أن يعرض نفسه لمثل تلك العقوبات.
(7) – عقلية ليبرالية عوراء
الليبراليون العرب – تشاركهم القوى اللادينية – يُصنفون الناس بباقة من تصنيفات مزاجية: منها: المثقف والجاهل، والمتخلف، والرجعي، والتقدمي، والحضاري، وغيرها من مصطلحات التصنيف الليبرالي واللاديني. يتم هذا التصنيف حسب ما يستخدمه الإنسان المسلم من مفردات وحسب مظهره الشخصي أحياناً.
فالمتخلفون والرجعيون – بحسب العقلية الليبرالية العوراء – يتداولون مفردات من بينها “بدعة” و”حلال” و”حرام” و”سنة” و” يجوز” و”لا يجوز” و”يا أخي الحبيب” و”جزاك الله خيراً” و” حق” و”باطل” و” بارك الله فيك”، وغيرها من مفردات تؤذي آذانهم، كما يبدو.
أما التقدميون والمتحررون والحضاريون فيتداولون – بحسب نفس العقلية العوراء – مفردات “تقدمية” منها: “صكوك الغفران” و”العراف” و”محاكم التفتيش” و”الرمز” و”تسلط الأديان” و”الغيبيات” و”الخلاص” و”الفكر الشمولي” و”الأصولية” و”الخرافة” و”الأيديولوجية” و”التطرف” و”الحداثة” و”الإقصائيين” و”الناسك” و”نواب السماء” و”منصورالحلاج” و”التزمت” و”الأوصياء” و”الفكر الغيبي” و”فكر السماء” و”الشعوذة” و”التكفير” و”العنصرية الأيديولوجية” و”المكفرين” و”السدنة” و”حمورابي” و”الكهنة” و”تعاويذ”، و”ترانيم” وغيرها.
أضف إلى ذلك ما ذُكر سابقاً كـ “الخليفة” و”السيف” و”البخور” و”النطع” و”الجواري” و”العبيد” و”الغلمان” وغيرها.
ولكي نُصنف ضمن الطبقة المثقفة التقدمية المعاصرة تصنيفاً نهائياً ودون منازع، لابد أن نتحدث عن أو نستشهد بـ”نيتشه” و”هيجل” و”ديكارت” و”جان جاك روسو” و”كانت” و”بيكون” و”ماركس” و”أنجلز” و”تروتسكي”، وغيرهم من الأسماء اللامعة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والتربوية شريطة أن لا يكونوا من المسلمين. وإلا فإننا سنصنف من المتخلفين.
وغني عن القول أن المصطلحات الليبرالية تستخدم وتنشر وتتداول فقط لإثبات تخلفنا وهرولتنا إلى الماضي، وإثبات تسلطنا الفكري، واستعبادنا لغيرنا، وتذكيرنا بديانات وحضارات سادت قبل الإسلام.
ولسنا في حاجة إلى القول بأن تذكيرنا المتواصل بوجود حضارات سادت قبل الاسلام، هو أمر يتم “بحسن نية ثقافية ليبرالية”، وما علينا نحن المسلمين “السذج” إلا اعتقاد ذلك.
8- سادة علينا.. عبيد لغيرنا
يرى الليبراليون العرب أن طاعتنا لمعلمينا واحترام مشايخنا والاستماع إليهم بأدب، وخفض جناح الذل من الرحمة، والتسامح والتنازل والتغاضي، وغير ذلك من سلوك وآداب كالوقوف للمعلم وتقبيل أيادي آباءنا وأمهاتنا وأجدادنا والاستماع إليهم ونحن مطأطئي الرأس، والصمت في حضرتهم، والاحترام والتقدير وحفظ الجميل.
يرى الليبراليون أن هذه الآداب قد تمثل (تربوياً) مظهراً ومدخلاً للتبعية والعبودية والتسلط الفكري، وقد تؤدي إلى رضوخنا وتبعيتنا وطاعاتنا للحكام، وكأن المسلمين قطيع يتبعون من ينعق بما يحلو له. يتناسى الليبراليون أن من يمارس هذا السلوك إنما يفعل ذلك بإرادته، وأن أغلب هذا السلوك هو نوع من التقدير والامتنان وشيء من رد الجميل لآبائنا وأمهاتنا وشيوخنا وفقهائنا ومعلمينا الذين علمونا كيف نفرق بين الحرف والحرف.
ولذلك من العار أن تتحول كلماتنا إلى سهام نقد وحقد وسخرية وتسفيه واستهزاء بمن كان له فضل علينا. كما أنه لكل مقال مقام، فمقام الأدب والتواضع وطأطأة الرأس الإرادية يدركها المسلم قبل غيره، ومقام العزة والرفعة يدركها أيضاً قبل غيره، واسألوا ساحات العلم والأدب واسألوا إن شئتم ساحات الوغى.
ومن جهة أخرى نرى بوضوح أن القوى الليبرالية واللادينية، تكن فائق الاحترام والتقدير لفلاسفة وعلماء وتربويين وسياسيين ومفكرين من غير المسلمين، ويشيرون إليهم بـ”السيد” و”الدكتور” و”الأستاذ” و”المفكر” و”الفيلسوف” و”المعلم” و”المناضل” و”الحقوقي” و”المؤسس” و”الرائد” و”القدير” و”البارز”، ناهيك عن “الملهم” و”الأممي” و”القائد” و”العظيم” وغيرها من الألقاب والصفات، بينما يذكرون الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) بأسمائهم المجردة (أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وخالد… إلخ) دون إضافة ما يشير إلى منزلتهم كالصحابي الجليل، أو رضي الله عنه، أو غير ذلك مما يدل على مكانتهم. والأدهى والأمر، أن منهم من يشير إلى الصحابة الكرام بصفات وألقاب لا تليق إلا بالطواغيت والفاسقين وطلاب السلطة والمتسلطين. هكذا يشار إلى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً، وهم الذين أسسوا قواعد الحرية، وغيروا مسار الإنسانية، وأخرجوا بلايين العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، فالرجل من أولئك الصحابة الكرام بدولة، والرجل بأمة، والرجل بتاريخ، وهم مثلنا الأعلى، ومصدر قوتنا، ومفخرتنا بين الحضارات فكرا وسلوكاً وعطاءً وإنجازاً، وسنظل نحبهم، ونقدرهم، ونعتز بهم، ونباهي بهم الأمم والملل والنحل.
لكن هذا الانفصام لا ينتهي عند عقدة الخواجة فقط،، بل يمس أمرا آخر أكثر جدية، فالليبراليون واللادينيون يستشهدون بعلماء وفلاسفة وسياسيين وتربويين من غير المسلمين، بمناسبة وبغير مناسبة، لكنهم يتخلون عن هذه الهواية عندما يتعلق الأمر بتفسير القرآن الكريم أو شرح الأحاديث الشريفة أو الخوض في أصل من أصول الإسلام، فينقلبوا إلى علماء يفسرون القرآن ويشرحون الأحاديث ويربطون بينها العلاقات كما يحلو لهم دون الاستناد على القواعد العلمية الدقيقة للقيام بذلك، ودون الإشارة إلى مصدر أو مرجع أو عالم أو دليل يساند تفسيراتهم وشروحاتهم. كما ينطبق على باقي العلوم الطبيعية والإنسانية.
ليس ذلك فحسب، بل لا يستخدمون الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة إلا للطعن في الناس واتهامهم بالغيبة والنميمة وطاعة ولي الأمر والنفاق والتناقض، لكنهم لا يلقون لها بالاً أثناء تحليلاتهم التاريخية “الفذة” أو أثناء تحليلاتهم “العميقة” لوقائع السيرة النبوية الشريفة أو أثناء حديثهم “السلس” عن المعجزات والكرامات والغيبيات، هنا ينقلبون إلى مهرجين يوظفون الآيات الكريمة – وبسخرية مقززة – في الطمس والهمز واللمز.
والأمر لا ينتهي عند هذا الغرور الثقافي، ولكن الويل والثبور لمن يذكرهم بشيء مما يجب أن يتمتع به المفسر، كإجادة اللغة العربية، مثلاً، ومعرفة أسباب النزول، وغير ذلك من شروط مفصلة في آلاف المصادر، فيكيلون التهمة بعد التهمة، لمن يذكرهم بذلك، تهم تتراوح – كالعادة- من نواب السماء، إلى الواسطة بين الله والعباد، إلى احتكار الدين، إلى تسلط الفقهاء، إلى غير ذلك من صيغ الإرهاب الليبرالي.
وندرك جميعنا، ودون تردد، أن ألف عالم وعالم، سيتصدون لمن تسول له نفسه احتكار أو توجيه أو شرح آيات الكتاب الكريم، أو الأحاديث الشريفة طبقاً لهواه وبما يخدم مصالحه، ولذلك وضعت قواعد التفسير وضوابط الأحاديث.
فهل يريد الليبراليون، إلغاء قواعد التفسير ليدعموا انفصال الدنيا عن السماء، بأدلة سماوية “شرعية” توافق تأويلاتهم وتدعم أهواءهم وتخدم أغراضهم.
9- لا حاجة لنا بكم
ويصر الليبراليون في محاولة أخيرة يائسة على أننا لا نطيق الديانات والحضارات والثقافات الأخرى، بل نقيم ستاراً حديدياً وحاجزاً نفسياً بيننا وبينها، بسبب جهلنا (المفترض) بهذه الثقافات أولاً وعجزنا عن استيعابها ثانياً وضياعنا فقهياً ثالثاً.
هذا ما يود أن يوحي به فقهاء الليبرالية وفطاحل اللادينية العرب، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء الالتفات إلى اليمين أو اليسار ليروا قوائم الأساتذة المسلمين الملتزمين والمتخصصين في مجالات مختلفة من الحضارات والثقافات الأخرى وهم يقومون بتدريس ونقد و إثراء هذه الثقافات أولاً واستخلاص الحكمة منها فيما يفيد المسلمين وغير المسلمين ثانياً، انطلاقا من أن الحكمة ضالة المؤمن.
ولو دقق فلاسفة الليبرالية العرب في هذه القوائم لوجدوا أن أصحابها هم من خريجي مدارسنا الابتدائية والإعدادية والثانوية في “سوق احداش” و”دكاكين حميد” و”الصابري” و”السلماني” و”الظهرة” و”ميزران” و”بالخير” “وسوق الجمعة” و “باب البحر” وغيرها من الأحياء البسيطة في مدينتي بنغازي وطرابلس ومن خريجي مدارسنا في جميع مدن وقرى وأرياف وصحاري ليبيا دون استثناء.
بل نحن مطالبون – انطلاقاً من روح حضارتنا – بأن يظل الحوار العلمي والموضوعي مفتوحاً بين الحضارة الاسلامية وجميع الأديان والقوى والاتجاهات السياسية والثقافية والأحزاب والحركات والجماعات غير الإسلامية، بما في ذلك القوى الليبرالية والعلمانية واللادينية (كما يطلقوا على أنفسهم).
ومطالبون – أيضاً – بأن نمد جسوراً ثقافية بيننا وبين الحضارات الأخرى بشرط أن يطغى الأدب والاحترام تجاه عقائد وأفكار وتصورات وآراء الأمم والشعوب، واحترام مقدساتها بهدف الوصول إلى ما يفيد البشرية جمعاء، وبشرط ألا يكون ذلك على حساب ثوابت أمتنا.
ولعلي أختم القول بأن الامة الإسلامية اليوم، أدرى من غيرها بقضاياها ومشاكلها وأوضاعها، وأدرى من غيرها بمواطن ضعفها وقوتها، ولم تدَّع الأمة الإسلامية أنها في أوج مجدها أو أنها في مرحلة علو أو تمكين، وبالرغم من ذلك فإن المسلمين يرفضون النقد والتوجيه والنصح بأسلوب يسيطر عليه الجدل والمراء والاستفزاز والطعن والتسفيه والسخرية والتهكم وإبراز السلبيات وطمس الحقائق وتجاهل الإيجابيات، ففي ذلك طعن في رسالة الإسلام وحرب على الإسلام، لا يمكن اعتبار ذلك مجرد نقد أو تنويه أو تصحيح أو غضب مؤقت أو زلة قلم، خاصة إذا تكرر الأمر.
ما جاء في هذا العرض ليس دفاعاً عن الإسلام، فالإسلام لا يحتاج إلى من يدافع عنه لأنه يحمل سر قوته في ذاته ولا يستعيرها من خارج إطاره. والصحابة الكرام رضي الله عنهم والأئمة والعلماء والفقهاء والمؤمنون بصفة عامة ليسوا في حاجة إلى من يدافع عنهم (إن الله يدافع عن الذين آمنوا.. الحج/38).
ونحن في نهاية الأمر في حاجة إلى الإسلام، والإسلام ليس في حاجة إلينا، والذين يحاربون الإسلام أفراداً وجماعات وفرقا ومذاهب ودولا وأنظمة وإمبراطوريات فإنهم (… كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه – الرعد/14)، فالإسلام عملاق لم يأت إلا ليبقى وينتصر. والله من وراء القصد.
فتحي الفاضلي
كُتبت في شيكاغو في 20 يونيو 2003م.