من الواقع إلى المقصلة…
المناضلون الفاشلون، الذين يتنقلون من خانة الأسود إلى خانة القطط، يبدؤون غالبا، رحلة السقوط، عبر تبريرات تضم مفردات ومصطلحات ومترادفات وكلمات وألفاظ … مثل “الضغوط”… “فن الممكن”… “فن السياسة”… “الأمر الواقع”… “ملينا”، وغيرها.
الفيتناميون لم يعتبروا الغزو الأمريكي أمرا واقعا، والأفغان لم يعتبروا الغزو الروسي أمرا واقعا، مع الفارق الهائل الضخم الشاسع في ميزان القوى بين الفيتناميين والأفغان من جهة والأمريكيين والروس من جهة أخرى.
الفرنسيون لم يعتبروا الغزو الألماني أمرا واقعا، والمجر وبولندا لم تعتبرا سيطرة الاتحاد السوفياتي أمرا واقعا، بل استمرتا في محاربته (سلمياً) إلى أن تحررتا منه. جيفارا لم يعتبر القوة الأمريكية أمرا واقعا، وغاندي لم يعتبر الاحتلال الإنجليزي أمرا واقعا. والليبيون بقياداتهم الوطنية الشرسة الفذة، أي المناضلون الحقيقيون، ومن بينهم شيخ الشهداء عمر المختار، لم يعتبروا الغزو الإيطالي أمرا واقعا، ولكم في الفلسطينيين أعظم مثل: مقاومة لأكثر من سبعين عاماً.
لا تنظر إلى أن هذا غزو خارجي، ولا تنظر إلى الجانب القتالي فقط، بل انظر إلى روح النضال والكفاح وطول النفس والتضحية والصبر والإصرار والتصميم من أجل تحقيق الأهداف الوطنية. نضال سياسي وإعلامي وفكري وثقافي وقتالي، دؤوب. لا كلل ولا ملل، جيل بعد جيل. إلى أن ينتصر العدل على الظلم.
وإن أردت المزيد – بعيداً عن الاحتلال والغزو والاستعمار – لم يعتبر الشعب الليبي النظام العسكري السابق أمرا واقعا، وفعلا أسقطوه. ولم يعتبر الشعب التونسي سيطرة بن علي بيد من نار وحديد أمرا واقعا. والشعب اليمني والمصري، بل شعوب عديدة أخرى غير الشعوب العربية والشعوب الإسلامية، أسقطت هذه الشعوب، أعتى الديكتاتوريات.
فمن كان غارقاً في مستنقع المرحلة والواقع والضغوط و”الله غالب” و”ملينا”، ومن كان نفَسه قصيرا، ونظرته قصيرة وقاصرة، وطموحاته محدودة، ويصر بالرغم من ذلك أن يكون ضمن مشهد النضال والمرحلة والكفاح، بل يصر على قيادة المشهد، أو أن يكون أحد قياداته، نقول له: بعلم أو بدون علم، بقصد أو بدون قصد: لقد خرجت من خانة النضال إلى خانة الاستسلام. وأصبحت من ضمن خانة القطط لا خانة الأسود.
وذلك من حقك، وحق كل مواطن، شريطة أن تعتزل النضال وأن تخرج من مشهد الكفاح وأن تتوقف عن خذلان وتحبيط من يريد مواصلة النضال. فالمناضل لا يتحالف مع المجرمين والظلمة والمستبدين والقتلة والديكتاتوريين. المناضل يحاربهم سياسياً وثقافياً وسلمياً وفكرياً وقتالياً، يحاربهم بعزيمة لا تلين، إلى أن ينتصر العدل على الظلم، عبر تحقيق الأهداف
الوطنية، لا الأهداف الشخصية أو الحزبية أو المرحلية أو الجهوية، أو تحقيق أهداف المجتمع الدولي، عبر تحقيق أهداف الحلفاء.
الأمر الواقع هو ما تصنعه أنت لا ما يصنعه أعداؤك، والممكن (في فن الممكن) هو ما تفرضه أنت لا ما يفرضه عدوك. إن ما قد تعتبره “واقعا” اليوم، قد يكون “مقصلة” ستحز عليها رقبتك مستقبلاً.
وأخيرا: هل اعتبر الصحابة الكرام والصحابيات الكريمات قوة وبطش وظلم وعنجهية وعناد وسيطرة وشراسة ونفوذ قريش أمراً واقعاً؟ بالرغم من التعذيب والقتل والاضطهاد والظلم والتهجير والمطاردة والتنكيل، لم يعتبروه أمرا واقعا، بل قاوموا بكافة الوسائل وفي كافة المجالات إلى أن انتصر العدل على الظلم. والله من وراء القصد.
فتحي الفاضلي
طرابلس- 3-06-2022م